خماسية لبنانية

43

بقلم أحمد الصراف

«القبس»

ليس مثل لبنان واللبنانيين في العالم. فكما أنهم متميزون في الإبداع والتفرّد والخلق والحب والضيافة وقبول الآخر والجمال، فإنهم، افتراضياً أو by default، هم مبدعون أيضاً في كل ما يخالف ذلك، فهذه من طبائع الأمور! وكما نقبلهم ونحبهم في الحالة الأولى، فإن علينا أيضاً تقبّلهم، أو تفهم وضعهم، في الحالة الثانية..! هكذا لبنان، وهكذا سيبقى!

منذ مئات السنين، والشيعي في لبنان مظلوم ومحروم غالبَا . وكان لهم، أو لزعمائهم من الاقطاعيين و«لثقافتهم الدينية» دور أساسي في تخلّف وضعهم التعليمي والاجتماعي والمادي، فسهُلت السيطرة عليهم، وتوجيه مجاميعهم لخدمة أغراض من تحكّم بهم، وكان البعض منهم ينتظر الشيطان ليتحالف معه للخروج من وضعهم السيئ، الذي ساهمت به أيضاً بقية القوى الأخرى، وبالذات السنية والمارونية، وما نتج عنه من ظلم الدولة لهم، فكانت محافظاتهم ومدنهم الأقل حصة من خدمات الدولة، والأقل بعدد المؤسسات التعليمية، حتى أثريائهم، في الداخل والمهجر ومزارعي البقاع، وما أدراك ما يزرع بعضهم، لم يكترثوا بهم يوماً، على مدى مئات السنين، فتح مدرسة ثانوية نصف متميزة، وهذا ما فعلته جميع الطوائف الأخرى!

ثم جاء موسى الصدر، في أوساط الستينيات، من إيران، بطلته وشخصيته القوية، وثقافته الدينية والمدنية العالية، وأحدث هزة قوية في المجتمع الشيعي، وكان وصوله نقطة تحوّل مفصلية في حياة شيعة لبنان، حيث أصبح لهم، لأول مرة كيان ما ووجود واضح، وزعامة معروفة، ويقال إن الصدر كان مدعوماً من نظام الشاه.

نجح الصدر في توحيد الشيعة سياسياً تحت مظلة «المجلس الأعلى» (1969)، وأسس حركة «من أجل المحرومين»، نواة حركة أمل (1974)، وشارك في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للجنوب، وساهم في تسليح المواطن الجنوبي، وأسس جمعيات خيرية، ومدرسة جبل عامل المهنية، وهي للسخرية، أول صرح تعليمي مميز يُقام في كل مناطق الشيعة، علماً بأن بقية الطوائف سبقتهم في هذا المجال بمئات السنين، وهذا جزء من مأساة الشيعة، التي طالما تطرقت لها. كما كان موقف الصدر من الحرب الأهلية (1975–1990) مميزاً، حيث نأى بنفسه عن التدخل فيها.

منذ نهاية الأربعينيات، وتأسيس إسرائيل، وما تبع ذلك من انقلابات، واستيلاء العسكر على الحكم في أكبر وأصغر الدول العربية، أصبح لبنان، الهش والصغير، بفسيفسائه الدينية والمذهبية والعربية، الملاذ الوحيد لكل عرب الدنيا، خليجاً ومحيطاً ووسطاً. وساعدت ظروف لبنان، من حريات وأحزاب دينية، ووصولية الكثيرين، وصحافة حرة، أغلبيتها برسم البيع، وجامعات مميزة ومشافٍ طبية، وطقس مناسب، في جعله قبلة المحتال قبل العفيف، ومنه خرج الصعاليك، وضاعف فيه الأثرياء ثرواتهم، وخلق من نصابين معدمين أصحاب ثروات ضخمة، وفي أزقته وفوق جباله، وعلى سهوله وقعت أجمل الحكايا، وارتكبت أبشع الجرائم، وحيكت أغرب المؤامرات، على لبنان وعلى غيره، وما بعد بعد غيره، فقد كان لعقود مركز تصفية الخلافات والحسابات بين الدول العربية المتصارعة، وملجأ الهاربين من طغاة دولهم، وأنظمتها الدكتاتورية، وتالياً عاصمة للفرق الفلسطينية المسلحة.

خلقت كل هذه العوامل، بدعم كبير من «البراغماتية الوطنية!»، «المعجزة اللبنانية: التي انتهت مع نشوب الحرب اللبنانية، التي مهد للانهيار التام وما تبع ذلك من تدخلات سوريا ومصر والعراق وليبيا وغيرها في شؤون لبنان، ليستفيد البعض، طوال نصف قرن، من كل هذه الفوضى، التي خلقتها أموال الخليج، والسائح العربي، لكن في النهاية دفع المواطن «المشحّر»، والاقتصاد اللبناني، ثمناً غالياً لذلك الانفتاح الفوضوي، الذي دفع لبنان نحو الهاوية، مادياً، وأمنياً، وأخلاقياً، ومعيشياً!

وهكذا اختفى مع الوقت الاستقلال اللبناني، وانهارت المستشفيات، وخربت الفنادق، واختفى الأمن، وغابت أفضل لقمة، واختفت أجمل بسمة، مع اختفاء رئيس الجمهورية، وموت الصحف، وتوقف دور لبنان الحضاري والتعليمي والثقافي، وحتى كونه البيئة الأفضل للمرأة وللأقليات.

أحمد الصراف

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.