خطاب نتنياهو ومصير صفقة التبادل

31

المحامي أسامة العرب
في خطاب بنيامين نتنياهو الأخير أمام الكونغرس الأميركي، أرسل الرئيس الإسرائيلي عشر رسائل رئيسية تحمل أبعادًا استراتيجية وسياسية تعكس تعقيدات الوضع الراهن وتوجهاته المستقبلية. وقد جاء هذا الخطاب في توقيت حساس، حيث تعاني إسرائيل من انتقادات داخلية وخارجية بسبب حربها المستمرة على غزة منذ تسعة أشهر، والتي أسفرت عن واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في التاريخ الحديث.
وقد ركز نتنياهو في خطابه على تأكيد عمق العلاقات الاستراتيجية بين إسرائيل والولايات المتحدة، مشددًا على أنها تتجاوز أي خلافات سياسية بين البلدين؛ كما أشار إلى أن العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة قائمة على أسس متينة من المصالح المشتركة، خاصة فيمَا يتعلق بالأمن القومي. وهذا التأكيد كان بمثابة خطوة أميركية رسمية لدعم نتنياهو الذي يعاني من تراجع شعبيته في الداخل الإسرائيلي، وليس لديه وسيلة أخرى سوى الدعم الأميركي لتعزيز موقفه، في ظل التداعيات السلبية لحرب الإبادة الجماعية التي يشنّها على غزة.
كما ذكر نتنياهو أن أية توترات سياسية أو خلافات بين البلدين لن تؤثر على هذه العلاقة، موضحًا أن الشراكة بين الولايات المتحدة وإسرائيل أقوى من أي اختلافات قد تنشأ بين القيادات. ولكن بدا نتنياهو حريصًا على عدم التجاوب مع الجهود الأميركية لإتمام صفقة وقف إطلاق النار، كما ظهر رافضًا لجميع محاولات إدارة بايدن للتوصل إلى هدنة مؤقتة، وهو ما أدى إلى مقاطعة العديد من النواب الديمقراطيين لخطابه في الكونغرس الأميركي.
إنّ هذا الموقف يعكس سياسة نتنياهو المستمرة في التصعيد العسكري ضد غزة، حيث يرى أن الحرب هي السبيل الوحيد للقضاء على التهديدات الأمنية التي تمثلها حماس. كما أن هذا التوجه أثار انتقادات واسعة من المجتمع الدولي الذي دعا إلى وجوب التوصل بعد تسعة أشهر من الحرب الدامية على المدنيين الفلسطينيين، لوقف إطلاق نار شامل وتجنيب الغزاويين المجاعة والمزيد من الخسائر البشرية.
علاوة على ذلك، فقد سعى نتنياهو في خطابه للتأكيد على تهديدات إيران ووكلائها للاستقرار في المنطقة، مقترحًا تشكيل تحالف إقليمي جديد يسمى «التحالف الإبراهيمي»، يضم الولايات المتحدة وإسرائيل والدول التي لديها علاقات تطبيع معها، لمواجهة المحور الإيراني، الذي سمّاه محور الشرّ.
إنّ هذا الطرح يبرز رؤية نتنياهو للأمن الإقليمي ودوره في تعزيز العلاقات الإسرائيلية-الأميركية، لمعرفته بمدى تردي العلاقة بين أميركا وإيران على خلفية برنامجها النووي، وما صدر مؤخرًا عن وزير الخارجية الأميركي من أن إيران باتت أكثر من أي وقت مضى قادرة على تصنيع القنبلة النووية.
وعلى هذا، فقد جاء حديث نتنياهو عن «التحالف الإبراهيمي» كوسيلة لتعزيز التعاون الإقليمي في مواجهة التهديدات الإيرانية، وللإشارة إلى أن هذا التحالف يحقق مصالح أميركا في المنطقة، ولهذا يجب دعمه ومؤازرته. كما أكد النتنياهو على أهمية التنسيق بين الويلات المتحدة وهذا التحالف في مواجهة النفوذ الإيراني المتزايد في الشرق الأوسط. واللافت أن نتنياهو تجاهل في خطابه أي إشارة إلى مبدأ حل الدولتين أو التوصل إلى هدنة، ما يعكس رفضه الالتزام بأي اتفاق قد يقيّد حكومته مستقبلًا؛ وهذا ما يعكس سياسة نتنياهو الثابتة في مواصلة الحرب حتى القضاء على حركتي حماس والجهاد الإسلامي وضمان عدم تكرار التهديدات من غزة، من خلال إقامة حكم مدني صوري قابع تحت احتلال جيشه الإسرائيلي. كذلك، فإن هذا التوجه يهدف إلى تعزيز الدعم الداخلي لسياساته اليمينية المتطرفة، حيث يعتبر أي تراجع أو قَبُول بتهدئة مؤقتة ضعفًا قد يقوي المعارضة الإسرائيلية ويهدّد مصيره السياسي مستقبلًا.
وباستعراض ما تقدّم، يكون نتنياهو قد أوضح عن رؤيته لليوم التالي لانتهاء الحرب على غزة، مشيرًا إلى أن إسرائيل ستسيطر على غزة عسكريًا لفترة من الوقت خلال ما يسمى بالفترة الانتقالية، وأنها ستقوم بنزع سلاح حماس والقضاء على كافة الفصائل المسلحة؛ وهذا الطرح أكّد للرأي العام العالمي أن نتنياهو سوف يحاول قدر الإمكان التفلّت من ضغوط الإدارة الأميركية الديمقراطية الحالية، ريثما تصدر نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، ولن ينسحب عسكريًا من قطاع غزة مهما كلّف الأمر؛ لاسيما أن نتنياهو أكّد أن إدارة غزة بعد الحرب يجب أن تكون مدنية وغير متطرفة حسب زعمه، مع تجاهله الواضح لدور السلطة الفلسطينية التي لا يزال يعتبرها خصمًا له، ويحاول منعها من إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
وعليه، فإن الرؤية اليمينية الإسرائيلية المتطرفة تهدف إلى طمأنة الجمهور الإسرائيلي وأعضاء الكونغرس الأميركي بأن لديهم خُطَّة واضحة للمستقبل، وقدرة على تحقيق الأهداف الصهيونية والأميركية في منطقة الشرق الأوسط، رغم الانتقادات الواسعة لعدم تمكنهم من تحرير الأسرى الإسرائيليين بعد كل هذا الوقت، وعدم رغبتهم بإبرام صفقة هدنة وتبادل مع حماس تقوّي من شوكتهم وشعبيتهم وتقلّل من هيبة الجيش الإسرائيلي. ولكن النتنياهو لن يكون قادرًا على مواجهة الديمقراطيين والمعارضة الإسرائيلية التي يرأسها يائير لابيد، لوقت طويل، ففي لقائه المنفصل في البيت الأبيض مع نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس، بدا التوتر واضحًا بينهما، بعد إثارة الأخيرة لضرورة معالجة الأوضاع الإنسانية في غزة، والإسراع بالتوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار وحلّ الدولتين، وإنهاء المجاعة والمعاناة الإنسانية في غزة، مؤكدة على أن الولايات المتحدة ستواصل دعمها لإسرائيل بشرط مراعاة الجانب الإنساني في الصراع، عاكسةً نوعًا من التوازن في علاقة الإدارة الأميركية الديمقراطية مع إسرائيل، خصوصًا في ظل الضغوط الممارسة من المجتمع الدَّوْليّ ومحكمتي العدل والجنائية الدولية لوقف الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها. ولكننا نرى بأنه، رغم الانتقادات الشديدة من الإدارة الأميركية الحالية الديمقراطية لإسرائيل، فإن العلاقة الاستراتيجية المشتركة بين البلدين في مواجهة التحديات الإقليمية، لن تتغيّر، لاسيما في ظل إيمان الحزبين الحاكمين الأميركيين بالصهيونية كأداة لتحقيق مصالح الشعب الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، والسيطرة على ثروات المنطقة، والإبقاء على سياسة البترودولار التي تمنع شراء أو تصدير البِترول بغير عملة الدولار الغير مغطى بالذهب، بمعنى أن الويلات المتحدة تطبع عملة الدولار بتكلفة لا تتجاوز السنت الواحد فتشتري به كل نفط المنطقة، ثم تقرض دولنا هذه العملة «المونوبولية» بفوائد عالية، فنصبح مديونين لها، ثم تمنّ على السلطة الفلسطينية وبعض دولنا الفقيرة بحفنة من الدولارات المتأتية من الفوائد الباهظة التي ندفعها لها، فنكنّ لها كل الشكر والتقدير والعرفان والولاء والاحترام.
بكافة الأحوال، استغل نتنياهو التصفيق الحار والترحيب الكبير به من أعضاء الكونغرس الجمهوريين، الذين يعرفون تأييده ودعمه لمرشحهم الرئاسي ترامب، ما عزّز من علاقته مع هذا الحزب السياسي الذي سيعطيه مزيدًا من القوة في الداخل الإسرائيلي، حال فوز ترامب بالانتخابات.
وتأسيسًا على ما تقدم، يمكن تلخيص خطاب نتنياهو بأنه محاولة لتعزيز موقفه الداخلي والدولي من خلال التأكيد على العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، ورفض أي حلول دبلوماسية قد تقيد حكومته، والتركيز على التهديدات الإيرانية لتعزيز تحالفاته الإقليمية. كما أن رسائله عكست توجهاته المستقبلية على مصير صفقة التبادل وحرب إبادة غزة المستمرة.
وبناءً عليه، فإننا نرى بأن مصير صفقة تبادل الأسرى بين إسرائيل وحماس يبدو غامضًا رغم كل ما يصدر من تصريحات عن اقتراب توقيع الصفقة. فخطاب نتنياهو أمام الكونغرس، أكّد أنه حتى لو أبرمت مثل هكذا صفقة، فإنها لن تستكمل مراحلها الثلاث، وإنما سيعود النتنياهو لاحتلال قطاع غزة ومواصلة قتال حماس وإبادة المدنيين وتجويعهم فور حصوله على كنزه الثمين، المتمثل بأسراه الإسرائيليين. لاسيما أنه لا يتوانى عن التأكيد على رفضه التوصل لوقف إطلاق نار لا شامل ولا مستدام، كما يصرّح علناً بأنه سيتابع القضاء على حماس وسيستمر جيشه بمواصلة العمليات العسكرية حتى تحقيق هذه الأهداف، ولذلك تظلّ هناك تساؤلات حول ما إذا كان إعطاء النتنياهو كل أسراه خطوة إيجابية، تصبّ في صالح المواطنين الغزاويين أم لا؟ رغم أنه من المعروف أن صفقة تبادل الأسرى تحمل أهمية كبيرة لحماس، كونها ستؤدي للإفراج عن مئات الأسرى الفلسطينيين المحتجزين في السجون الإسرائيلية، ولكن في الوقت نفسه ما تزال هنالك شكوك عند كثيرين من أن إسرائيل قد تعاود أسرهم من جديد بعد إطلاق سراحهم، كما فعلت مع الكثيرين من قبل.
ختامًا، إنّ الهواجس التي أثرناها لكم، تؤكد على مدى أهمية التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق نار دائم بضمانات دولية، تشارك فيها الصين وروسيا، وهذا هو الحلّ الوحيد الكفيل بمنع مواصلة إبادة أهلنا في غزة مستقبلًا، ولعدم المضيّ قدمًا بضم الضفة الغربية إلى إسرائيل والحؤول دون إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
وأخيرًا، للنتنياهو نقول: لكل طاغية حساب، ولكل فرعون موسى، بالاستناد إلى قوله تعالى في محكم تنزيله: «ولا تحسبن الله غافلًا عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار، مهطعين مُقنعي رؤوسهم، لا يرتدّ إليهم طرفهم، وأفئدتهم هواء»، فهما طال الزمن، سيحقّ الله ويبطل الباطل، ولو كره المجرمون.
المحامي أسامة العرب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.