حكاية السّنوار: صبيّ جعل السّجن أكاديميّته (1/2)

24

بقلم أمين قمورية

«أساس ميديا»

ثقيلة هي التبعات النفسية التي خلّفتها نكسة 1967 على أجيال كاملة من العرب، فكيف سيكون وقعها على صبيّ فلسطيني، كان ينتظر مع أهله وأترابه في أحياء البؤس بمخيّم خان يونس للّاجئين لحظة التخلّص من الشقاء والعودة إلى مدينة المجدل التي أرغمت عائلته مجدّداً على الهجرة منها بعدما دمّرها الاحتلال الإسرائيلي وهوّدها وصارت تُعرف باسم عسقلان.

في الحلقة الأولى من حكاية هذا الصبي الذي اسمه يحيى السنوار نستعرض البدايات التي حوّلت السجن إلى أكاديمية تخرّج فيها بشغف أمنيّ واندفاع عسكري.

ثبّتت “النكسة” نتائج “النكبة” وجعلت العودة حلماً مستحيلاً وزادت الكآبة قتامة والتعاسة تعاسة وأشعلت نار الغضب والرغبة بالانتقام والتوق إلى الانعتاق من أغلال الذلّ والاحتلال بأيّ ثمن في نفوس الفلسطينيين من مختلف الشرائح والأعمار. من بين هؤلاء كان الصبي الصغير يحيى السنوار، الذي كبر وشبّ وشاب، مجبولاً بالقسوة والتصميم على كسر القيد وتحطيم القواعد السائدة والمألوفة لتنفيذ ثأر قديم معشعش في داخله.

حكاية أبي إبراهيم

من السهل رواية حكاية أبي إبراهيم، وفصول حياته، فهي نسخة طبق الأصل عن حياة الآلاف من أترابه في مخيّمات اللجوء والمنافي، وهي مليئة بالقهر والصعاب والنضال والخيبات والصدمات والهزائم وأنصاف الانتصارات وذلّ السجون والمعتقلات وخسارة الأحباب والمحطّات المثيرة والدرامية والصراعات الدامية بين الفلسطينيين أنفسهم. لكنّ من الصعب اختراق عقل الرجل الذي خطّط ونفّذ “الطوفان” في غلاف غزة وأحدث زلزالاً في فلسطين المحتلّة هزّ المنطقة وشغل الدنيا. والأصعب توقّع خطواته وقراراته المقبلة بعدما صار الزعيم المطلق لحركة “حماس”، ملغياً بتولّيه المباشر رئاسة المكتب السياسي، الفصل الذي كان قائماً بين قيادتَي الداخل والخارج، ومزيلاً للحواجز التي كانت مرفوعة بين الجناحين السياسي والعسكري، الأمر الذي بدا واضحاً عندما اتّخذت قيادة “كتائب عز الدين القسام” منفردة قرار تنفيذ “الطوفان” من دون علم السياسيين ومرجعيات الخارج، وعليه يحضر السؤال الأهمّ: هل ينسحب الحسم على التوجّهات الإقليمية للحركة ويحدّد من هم الحلفاء الأقرب أم يبقي على تنوّع الخيارات الإقليمية القائم حالياً وتنوّع الآراء وتعدّد الحلفاء؟ هل يعطي الأولوية لـ”المحور” وإيران على حساب العلاقات التقليدية للحركة مع تركيا وقطر أم يمسك العصا من المنتصف؟

السّجن أكاديميّة السّنوار

الأمن هاجس السنوار وعقله وهوسه. مكافحته للعملاء والجواسيس والمخترقين عند تولّيه جهاز “المجد” الحركيّ المخصّص للوقاية من الخرق واصطياد “المتعاونين” وتصفيتهم، ومكافحة الجرائم “الأخلاقية” كالمثلية الجنسية والخيانة الزوجية وحيازة الموادّ الإباحية، قادته إلى المعتقلات مراراً. منذ البداية، اعتبر السنوار السجن “أكاديمية”، ومكاناً لتعلّم لغة العدوّ وعلم النفس وتاريخه. مثل العديد من الأسرى أجاد اللغة العبرية والتهم الصحف الإسرائيلية والبثّ الإذاعي، وقرأ كتب المنظّرين الصهاينة والسياسيين ورؤساء الاستخبارات. وعلى الرغم من طول مدّة عقوبته، كان واثقاً بأنّه سيُفرج عنه وسيعاود المقاومة المسلّحة. لم يكن يخاف من سجّانيه. قال للمحقّق يوماً: “أنت تعلم أنّك في يوم من الأيام ستكون الشخص الخاضع للاستجواب، وسأقف هنا كحكومة، كمحقّق”.

داخل السجون كما خارجها، ظلّ السنوار رجل الأمن الأوّل. وجعل غرف السجن مراكز للتحقيق والاستجواب للربط بين ما يجري في الداخل وما يجري خارج السجون من اغتيالات لقادة الحركة وتصفيات. طبيعته الأمنيّة جعلته مختلفاً عن القادة الآخرين للحركة، فهو ليس داعيةً، بل رجل أمن قاسٍ وشديد عندما يتلمّس محاولة اختراق، لكنّه ودود في علاقاته الاجتماعية. أحبط اختراقات عدّة، لكنّه ظلم أحياناً أبرياء تبيّن لاحقاً أنّهم مناضلون أوفياء. يقول البعض إنّه بالغ في التصفيات وتحوّل سفّاحاً. يردّ آخرون بأنّ إسرائيل سوّقت لهذه الصفات لتشويه صورته وسمعته. يقول قادة “حماس” وأنصارها إنّ الإسرائيليين يحتاجون إلى شرّير كبير الحجم، ولذا صنعوا واحداً من السنوار. ويجادلون بأنّ جماعات المقاومة، مثل الجيش الجمهوري الإيرلندي، لطالما عاقبت المتعاونين كضرورة للحرب.

الشّغف الأمنيّ

شغفه الأمنيّ جعله ضليعاً بكلّ شاردة وواردة عن تركيبة الجيش الإسرائيلي وأجهزته الأمنية والمخابراتية، الأمر الذي سهّل انخراطه وتماهيه مع الجهاز العسكري للحركة الذي تعرّف على أبرز قادته في الزنازين وكان لهم منارة إرشاد إلى نقاط ضعف العدوّ ومكامن قوّته من أجل ضرب الأولى وتجنّب الثانية، الأمر الذي أضاف إلى عقله الأمنيّ صفة المخطّط العسكري. هكذا ساهم أثناء وجوده في السجن عبر شقيقه “العسكري” محمد السنوار في خطّة خطف الجندي جلعاد شاليط، وتمكّن من نقل ملفّ التفاوض إلى السجن، فكان المفاوض الأبرز في صفقة التبادل التي قادت إلى الإفراج عنه وعن ألف معتقل آخر، والخروج من السجن إلى قيادة الحركة في غزة ليضطلع بأدوار بارزة شكّلت معالم جديدة للصراع، وصولاً إلى تنفيذ خطّته “العبقرية” التي كسرت جدران غزة وهيبة الجيش الإسرائيلي بعدما هشّمت خطّه الدفاعي الأوّل وحشرته في أسوأ زاوية منذ قيام الكيان.

في السجن أيضاً، أسّس لعلاقة مع القيادي الفتحاوي البارز مروان البرغوثي والأمين العام لـ “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” أحمد سعدات، وأوجد الثلاثة لغة مشتركة وخاضوا معاً إضرابات السجون وصاغوا مبادرات ورسائل للخارج أبرزها “ميثاق الأسرى للوفاق الوطني” في ربيع عام 2006 الذي مثّل محاولة لرأب الصدع الواسع بين نقيضَي المشهد السياسي الفلسطيني، حركتي “فتح” و”حماس”. وحتى اللحظة لا يزال البرغوثي وسعدات على رأس قائمة الأسرى الذين يطالب السنوار بالإفراج عنهم في صفقة التبادل المتعثّرة مع إسرائيل، على أمل وجود شركاء يقدر على التعاون معهم وإحياء حركة وطنية فلسطينية جديدة متعدّدة الأجنحة.

في السجن أيضاً كتب “الشوك والقرنفل”، وهي رواية لأحداث حقيقية ألبسها لشخصيات خيالية وعمل زملاؤه السجناء مثل النمل لتهريب صفحاتها إلى الخارج. في كانون الأوّل الماضي، شرعت “أمازون” في تقديم ترجمة إنكليزية للكتاب. وجاء في الترويج بأنّ الرواية ستوفّر للقرّاء فرصة نادرة “لاجتياز ممرّات عقل السنوار”. لكنّ “أمازون” أزالت الكتاب تحت ضغط الجماعات المؤيّدة لإسرائيل التي حذّرت جيف بيزوس من أنّ بيعه قد يكون انتهاكاً لقوانين مكافحة الإرهاب البريطانية والأميركية، لكن لا يزال من الممكن العثور على نسخة رقمية عبر الإنترنت.

هذه الرواية عن الحياة الصعبة في غزة وحكايات المقاومة والمعاناة من الاحتلال والخيبات السياسية والقهر والإذلال تجعل روايات الواقعية الاشتراكية السوفياتية تبدو أمامها مائعة وخيالية.

العمل العسكريّ هو الصّوت الأعلى

بعد خروجه من السجن عام 2011، عزّز حضوره إلى جانب محمد الضيف داخل صفوف حركته ودعم دوره داخل جناحيها لا سيما العسكري. عام 2012 انتُخب عضواً في المكتب السياسي للحركة، وعلى الفور تولّى ملفّ التواصل مع الجناح العسكري. شرع السنوار خلال هذه المرحلة بلعب أدوار أوسع متّكئاً على علاقته المتينة بالعسكر وصولاً إلى انتخابات عام 2017 التي خرج منها على رأس المكتب السياسي للحركة في غزة مطيحاً بأسماء وازنة أبرزهم الشهيد إسماعيل هنية.

ظلّ السنوار على رأس الحركة في غزة، وصولاً إلى استحقاق انتخابي جديد سبق السابع من أكتوبر بسنتين. خرج منه مرّة أخرى زعيماً لـ”حماس” في غزة. بدت المنافسة هذه المرّة شرسة للغاية بين السنوار وشخصيات وازنة في الحركة. أعاد مسؤولو الانتخابات الداخلية التصويت “ثلاث أو أربع مرّات” لضمان فوز السنوار. وبدا حينها أنّ لدى السنوار و”القسّام” خططهم الخاصة، حيث صار العمل العسكري هو الصوت الأعلى في الحركة، مطلقاً العنان لـ”طوفان الأقصى”، الهجوم الأكثر رعباً وتدميراً لإسرائيل منذ قيامها.

لم يخفِ السنوار في الكثير من المحطّات طموحاته. لم يكن رمادياً كشعره الرمادي ولحيته المشذّبة الرمادية. أراد أن يكون اللاعب الأبرز الذي يدير مجريات الأمور وتفاصيلها ويجني ثمارها نفوذاً وسلطة، على ما يقول زميله في الأسر عصمت منصور.

حدث “الطوفان” وحدث العدوان الإسرائيلي الرهيب الذي تحوّل إلى أبشع الكوارث الإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية. اعتبر مجلس الحرب الإسرائيلي أنّ السنوار ومساعديه “رجال ميّتون يسيرون”. قتل الجيش العديد منهم ومن القادة العسكريين والقادة السياسيين لـ”حماس”. لم يترك سلاحاً إلا واستخدمه لتفتيت غزة وتدميرها من أجل سحق مقاومتها ودفعها إلى الاستسلام ورفع الأعلام البيض. لكنّ غزة ظلّت تقاوم وظلّ السنوار المطلوب الرقم واحد صامداً في شبكة الأنفاق الواسعة الممتدّة في عمق المدن والبلدات ومخيّمات اللاجئين في القطاع. في البداية، كان يُعتقد أنّ مقرّ السنوار تحت الأرض في مدينة خان يونس الجنوبية، حيث ولد، وبعد اقتحام المدينة رجّح الغزاة أنّه فرّ جنوباً إلى مجمّع تحت الأرض في رفح. أوقف الاتصالات الهاتفية والإلكترونية، واستعاض عنها بملاحظات ورسائل شفوية ينقلها عدّاؤون موثوق بهم إلى قادة المجموعات والفصائل.

أمين قمورية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.