حقيقة النّزوح السّوريّ وفق حسابات “الدّكّنجيّ”!

85

بقلم جان عزيز «اساس ميديا»

حسناً، احسبوها على طريقة حساب الدكّنجي.

هناك نحو 7 ملايين سوري نازح خارج سوريا.

غالبيّتهم الكبرى ما زالت ترتبط ببلدها لألف سبب وسبب. ما يعني استمرار تعاملها الإداري في نواحي حياتها كافّة، من معاملات ووثائق رسمية، مع هذه “الدولة السوريّة”.

ولنفترض أنّ 15% فقط من هؤلاء احتاجوا إلى استصدار جوازات سفر جديدة كلّ سنة. أي نحو مليون جواز سنوياً.

رسمُ تجديد الجواز السوري خارج البلد 800 دولار أميركي، للعاجل. و300 دولار للعاديّ.

احسبوها. نصف مليار دولار سنوياً في أقلّ تقدير، هي عائدات السلطات السورية من جوازات سفر النازحين.

فكيف يُطلب منها إعادتهم إلى سوريا، بلا تعويض رسوم الجوازات على الأقلّ؟!

هذا قبل أن نبحث في باقي العقبات والحسابات والخلفيّات و”المؤامرات” و”الاتّهامات” الأخرى.

تطغى المزايدات والشعبويات وبعض الغوغائية، في ردود اللبنانيين، رسميين و”تواصليين اجتماعيين”، على قضية النازحين السوريين وخبريّة المليار الأوروبي.

فيما الحقيقة والجدّ في مكان آخر.

كُتب الكثير عن الحسابات المتعدّدة والمتقاطعة على عدم عودة النازحين إلى بلادهم.

حسابات النظام ومحوره من طهران إلى حارة حريك. وحسابات خصومه من أوروبا المشاطئة، إلى أميركا المناوئة لكلّ ما له علاقة بالأسد.

هذا الواقع بالذات هو ما دفع بعض المسؤولين الأمميين عن الملفّ إلى مقاربته بشكل عقلاني. بعيداً عن زعيق المستثمرين.

يكشف مصدر أمميّ أنّه منذ سنة بالتمام عمدت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إلى محاولة التقدّم ولو خطوة صغيرة في الملفّ. خصوصاً لجهة النازحين إلى لبنان.

دمشق تريد الثّمن

يدرك مسؤولو المفوضية تعقيدات القضية كافّة. لكنّهم يعرفون أنّ دمشق، كلّما فوتحت بالموضوع، تذرّعت، في الظاهر والعلن على الأقلّ، بالإمكانات الماليّة، أي “نريد ثمن عودة مواطنينا، لتوفير مقتضيات حياتهم من بنية تحتية لمناطق العودة وحدٍّ أدنى من تنمية لاستيعابهم كيدٍ عاملة”.

في المقابل يعرف مسؤولو المفوضية أيضاً أنّ واشنطن ما زالت تتعاطى حيال نظام دمشق، انطلاقاً من قاعدة لاءاتها الثلاث: لا للتطبيع. لا لرفع العقوبات. لا للمساهمة في إعادة الإعمار قبل الحلّ السياسي كما تراه واشنطن.

وهي لاءات جدّية حاسمة ورادعة. لأنّها منبثقة من قوانين أقرّها الكونغرس الأميركي. وبالتالي فهي ترتّب على غير الملتزم بها عقوبات أميركية صريحة. أي عقوبات دولية شاملة، في ظلّ قدرة واشنطن على إلزام العالم بإجراءاتها.

لذلك قرّر مسؤولو المفوضية السير بين ألغام الملفّ لتحقيق ولو ثغرة أولى إيجابية.

والثغرة التي وجدها هؤلاء تمثّلت في الهامش الذي تركته واشنطن لشيء من مساعدات إنسانية للداخل السوري، ضمن ما تسمّيه قوانينها برامج “التعافي المبكر”.

خطّة مكتوبة: ضمانات… ومراقبة

أعدّت المفوضية في أيار 2023 خطّة مكتوبة. وقرّرت عرضها على النظام السوري. محورها وجوهرها هما قبول سلطات دمشق بسلسلة إجراءات أو ضمانات تُعطى للهيئات الأممية، بما يسمح لها بمراقبة ومتابعة أحوال بعض النازحين العائدين من لبنان إلى بيوتهم في سوريا.

حتى إذا تبيّن أنّ هؤلاء لم يتعرّضوا لأيّ مخاطر أو تهديدات، عندها تستند المفوضية إلى تجربتهم، لتعلن رسمياً عن وجود مناطق آمنة داخل سوريا. وهي الخطوة الأممية التي تسمح لاحقاً بنقل المساعدات الماليّة المخصّصة للنازحين، من أماكن نزوحهم إلى مناطق عودتهم الآمنة، ضمن هامش “التعافي المبكر” المقبول أميركياً.

أُنجزت الورقة وأُرسلت إلى دمشق. استغرق درسها من قبل النظام السوري أربعة أشهر. في أيلول جاء الردّ إيجابياً في شكلٍ عامّ وحيال المبدأ. مع ملاحظات للبحث، طبعاً وفق الأسلوب السوري المعهود.

بعد أيام قليلة على الردّ، كان 7 أكتوبر (تشرين الأول) وطوفان الأقصى. فتوقّف كلّ شيء.

لكنّ المصدر الأممي ما زال يؤكّد أنّ هذه هي الطريق الوحيدة الممكنة لتحقيق خرق في الملفّ.

كلّ الكلام الباقي شعارات ومزايدات.

المفتاح الوحيد… هو المال

صحيح أنّ أكثرية المقيمين على الأراضي اللبنانية، دون سنّ العشر سنوات، باتت من السوريين.

وصحيح أنّ هذا المعطى لا يحتمل انتظار 10 سنوات أخرى. تحت طائلة زوال البنية الديمغرافية اللبنانية بالكامل.

وصحيح ربّما ما ورد في مناسبة حكومية رسمية عن أنّ بين كل خمس ولادات في لبنان اليوم، واحدة منها فقط لمولود لبناني.

وصحيح أيضاً وأيضاً أنّ كلّ الجهات المشاركة في السلطة اللبنانية، مستفيدة من ملفّ النزوح، ماليّاً وخدماتياً وزبائنيّاً وبشكل مباشر. يكفي التذكير بتقرير هيومان رايتس واتش سنة 2017، عن 135 مليون دولار ضائعة في “تربية” الطلاب السوريين…

لكن مقابل ذلك كلّه، الصحيح أيضاً أنّ مفتاح الحلّ الوحيد الممكن راهناً، هو المال. فإلى جوار لبنان بلدٌ على شفير مجاعة. يهرب سكّانه منه يومياً. برّاً وبحراً. فكيف تقنع ناسه قبل حكّامه، بعودة أو باستعادة مواطنيهم، الهاربين أصلاً من جحيم بلادهم؟!

تذكّروا فقط رسوم الجوازات. تذكّروا أيضاً كلام مسؤول حكومي سوري عن تقديره لتحويلات السوريين من الخارج، بنحو 3 مليارات دولار أميركي سنوياً. من سيعوّض على النظام تلك المبالغ، في أشدّ حاجته إلى آخر فلس؟!

هذا ما لم تدركه سلطات بيروت. وهذا ما تعاطت معه بخفّة وعدم جدّية واستخفاف.

قبل ثلاثة أعوام أصدرت “هيومان رايتس واتش” تقريراً مفصّلاً وموثّقاً. هو واحد من تقارير عدّة متسلسلة، يُظهر أنّه من ضمن عيّنة من 65 حالة من العائدين السوريين من لبنان إلى سوريا، تابعتهم المنظمة، سُجّلت “21 حالة اعتقال واحتجاز تعسّفي. و13 حالة تعذيب. وثلاث حالات اختطاف. وخمس حالات قتل خارج نطاق القضاء. و17 حالة اختفاء قسري. وحالة عنف جنسيّ مزعوم”.

يومها لم يتحرّك مسؤولٌ لبناني واحد. لم يفهم هؤلاء أنّ الصمت حيال هذا الكلام، هو مقتلٌ أكيدٌ لكلّ مساعيهم لحلّ قضية النازحين.

الكلام عن “خطر العودة” موثّق دوليّاً

ربّما يعتقد مسؤولو لبنان أنّ مصير التقارير الدولية مماثل لمقرّراتهم الفارغة. أو أنّ المؤسّسات الدولية مجرّد هياكل كرتونية مصابة بفقدان الذاكرة ومسح الحقائق، كما هي حال مؤسّساتهم.

فيما الحقيقة عكس ذلك. فالكلام عن “خطر العودة” يوثّق دوليّاً. حتى لو كان تلفيقات ومغالطات ومزاعم. إذا لم تخرج جهة معنيّة أو حكومية وتردّ عليه وتفنّده وتدحضه، صار حقيقة دولية. ومتى صار كذلك، صارت “الدول المتحضّرة” والهيئات الدولية كافّة، ملزمة بتنفيذه والسلوك ضمن مندرجاته. هكذا يسير العالم. وهكذا نتخلّف نحن.

إلى أين من هنا؟

لو أنّ في لبنان “مسؤولاً” واحداً مسؤولاً، لحمل تقرير “هيومان رايتس” وذهب به إلى دمشق. ولبث هناك حتى يحصل على ردٍّ مضادٍّ مفصّلٍ بالوقائع والوثائق والأسماء، “ينفي المزاعم والاتّهامات كافّة”. بعدها يستدعي “المسؤول المسؤول” ممثّلي المنظّمة في بيروت، ويبلغهم نتائج تحقيقاته. ويطلب منهم إصدار تقرير محدث. والأهمّ إبلاغ الجهات الأممية بذلك.

ثمّ يحمل ورقة مفوضية الأمم المتحدة المنجزة بين نيويورك ودمشق، ويذهب بها إلى المسؤولين السوريين، طالباً البدء بتنفيذها فوراً. لا على طريقة عودة الباصات الكرنفالية السخيفة.

يبدأ إثر تلك الخطوات وصولُ المال إلى العائدين إلى منازلهم بسوريا. وهو ما قد يشكّل باباً جدّياً لتسريع المعالجات، ولفتح أبواب جديدة لها.

فقط لو أنّ في لبنان مسؤولاً واحداً مسؤولاً، لا يفكّر ربّما بأنّه بعد عشر سنوات لن يكون ههنا. أو أنّه قادر عندها على الانتقال بعائلته وثروته إلى بلد آخر، يمضي فيه تقاعده براحة وأمان واطمئنان.

فقط لو أنّ لدينا مسؤولاً واحداً خارج أجواق الزجل والدجل!

جان عزيز

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.