“حرب” ترامب: أميركا قويّة ودولار ضعيف
بقلم عبادة اللدن
«اساس ميديا»
يكتب الرئيس الأميركي دونالد ترامب بيده نهاية نظامَين هيمنت بهما الولايات المتّحدة على الاقتصاد العالمي على مدى ثمانين عاماً:
- نظام التجارة العالمي، الذي أخذ شكله المحدّث في التسعينيات من القرن الماضي إثر انهيار الاتّحاد السوفيتي وإعلان “نهاية التاريخ”.
- ونظام هيمنة الدولار الذي أُنشئ انعكاساً لنتيجة الحرب العالمية الثانية عبر اتفاقية “بريتون وودز”، وأُعيد تشكيله عام 1973 بإلغاء الاتفاقية وفكّ الارتباط بين الذهب والدولار.
يحتار كبار الاقتصاديين في فهم استراتيجية ترامب وتكتيكاته: هل يضع التعريفات لتبقى أم يضرب بها ليفاوض ويجبر الآخرين على فتح أسواقهم أمام السلع الأميركية؟ لكنّهم لا يختلفون في أنّه يريد إعادة تشكيل نظام التجارة العالمي بما يضمن استمرار الهيمنة الأميركية على الاقتصاد والنظام المالي وتدفّق السلع والخدمات، إن لم يكن بالتفاوض فبالحرب التجارية، وربّما النقدية. غير أنّ المعضلة تكمن في الموازين التي تحكم إنشاء النظام الجديد.
يردّد ترامب عنوانين رئيسيَّين لشرح ما يريده، والمشكلة فيهما أنّ من الصعب جمعهما في ورقة استراتيجيّة واحدة:
- يقول إنّ التعريفات الجمركية ستجعل أميركا غنيّة مجدّداً، وإنّه سيجمع مئات المليارات منها ليخفض عجز الميزانية، وليتمكّن من خفض الضرائب.
- لكنّه يؤكّد في المقابل استعداده للتراجع إذا حصل على الثمن الذي يريد، بما يضمن تعديل موازين التجارة وإعادة بناء قاعدة التصنيع الأميركية، وتوفير فرص العمل.
التعارض بين الهدفين واضح. فالهدف الأوّل يعني أنّ التعريفات وُجدت لتبقى رافداً ماليّاً بديلاً للخزينة الفدرالية، بما يسمح لترامب بتنفيذ وعده بخفض الضرائب على الشركات، على نهج رونالد ريغان في الثمانينيات. وبذلك تجني الخزينة رسوماً جمركية أكثر وضرائب أقلّ. فيما الهدف الثاني يعني أنّ الإيرادات ليست هدفاً بذاتها، بل إنّ التعريفات ستؤدّي إلى استيراد أقلّ.
الرّكود التّضخّميّ
فكرة ترامب المبسّطة أنّ لدى أميركا سلاحاً اقتصاديّاً لا يُضاهى، هو سوقها الاستهلاكي الهائل الذي يصل حجمه إلى 18 تريليون دولار سنويّاً، أي ما يقارب 70% من حجم الاقتصاد الأميركي، ونحو 28% من سوق الاستهلاك العالمي. ويقول بكلّ وضوح إنّ دخول هذه السوق لن يكون إلّا بشروط واشنطن. فمن يرِد الوصول إلى جيب المستهلك الأميركي فليصنّع منتجاته في أميركا.
غير أنّ التعريفات لا يحبّها المستهلكون ولا تحبّها الأسواق، وقد كانت ردّة الفعل عليها عنيفة يومَي الخميس والجمعة الماضيَين مع تسجيل بورصة وول ستريت أسوأ هبوط في يومين متتاليَين في تاريخها. وثمّة خوفٌ جدّي من أن يتّجه الاقتصاد إلى الركود التضخّمي، أو أن يكون الركود قد بدأ بالفعل، كما يقول لاري فينك، الرئيس التنفيذي لشركة “بلاك روك”، أكبر شركة لإدارة الأصول في العالم البالغة قيمتها تريليون دولار. وغنيٌّ عن التذكير أنّ ترامب خاض الانتخابات بشعار مكافحة التضخّم، ملقياً بالفشل في هذا الميدان على سلفه جو بايدن.
أمام الهلع من هبوط الأسواق، يردّ وزير التجارة في إدارة ترامب هاوارد لوتنيك بالقول: “دعوا صانع الصفقات يصنع صفقاته”، ويرسل ترامب نفسه تلميحات إلى أنّه يناور ليفاوض، وأنّ التعريفات “دواء” (مؤقّت؟) لا بدّ من تناوله، ويشير إلى أنّ التعريفات جعلت خمسين دولة تتّصل به لطلب التفاوض، وأنّ بعضاً منها أبدت استعداداً لتصفير متبادل للقيود التجارية. وربّما كان يأمل أن تأتيه الدول الأخرى جاثية على ركبتيها طالبةً التفاوض، أو أن يتوصّل إلى اتّفاقات كبيرة قبل تطبيق التعريفات التي أعلنها في الثاني من نيسان، والتي عصفت بالبورصات الأميركية والعالمية.
هل يتراجع ترامب أمام ضغط المليارديرات وانهيار الأسواق وارتفاع التضخّم؟
لم يعد الأمر بيده وحده. فالصين دخلت الحرب عمليّاً، وتريد أن تستعرض قوّتها قبل أن تجلس إلى طاولة التفاوض. والواقع أنّ ما لديها من أوراق يؤهّلها للتصرّف بطريقة مختلفة عن المكسيك وسواها من الدول التي يمكن أن ينهار اقتصادها إذا أُغلق السوق الأميركي في وجهها.
حرب عملات
على أيّ حالٍ، سقط النظام القديم، بشقّيه التجاري والنقديّ. سقط ولم يعد قابلاً للاستمرار، حتى لو انطلق التفاوض وأُعلنت بعض الاتّفاقات الآنيّة.
في مجال التجارة، لن يعود نظام منظّمة التجارة العالمية إلى الحياة. فقد وُجد هذا النظام بموجب اتفاقية مراكش عام 1994، بعد عقود من جهود رفع القيود التجارية، وكانت الولايات المتّحدة حينها في حالة الأحاديّة القطبية المفرطة بعد انهيار الاتّحاد السوفيتي. كان تفوّقها التكنولوجي بعيداً عن المنافسة، إذ كانت تحتكر صناعة الرقائق والبرمجيّات الأكثر تقدّماً، فيما كان اقتصاد الصين يقوم على الصناعات المقلّدة والمحدودة التقنيّة. ولذلك كانت وظيفة هذا النظام أن يفتح الأسواق أمام التفوّق الأميركي. وعندما بدأ الآخرون يستفيدون من رفع القيود لأخذ حصّتهم من التصنيع والتكنولوجيا، لم يعد للنظام القديم قوّة تحميه. ولذلك النظام الجديد سيقوم على الاتفاقيات الثنائية بدلاً من الاتفاقيات الدولية التي تحتاج إلى ناظمٍ كبيرٍ يستطيع فرض إيقاعه على الآخرين، كما كانت الولايات المتّحدة في التسعينيّات.
ستكون تداعيات سقوط نظام التسعينيّات كبيرة. إذ سلاسل التوريد إلى الانعزال داخل الدول (onshoring) بعد عقود من التوريد المتشابك والمتباعد (offshoring)، خصوصاً في الولايات المتحدة، وربّما تلجأ القوى الأخرى إلى تجميع قواها والانتظام في اتفاقيّات موازية.
الأخطر من ذلك أنّ سقوط النظام التجاري القديم قد يستتبع تغيّراً تدريجياً في النظام الماليّ العالمي، وقد يبدأ على شكل حرب عملات، ويتدرّج إلى تقليص القوى الاقتصادية الكبرى لاعتمادها على الدولار الأميركي، وعلى منظومات الدفع وتحويل الأموال المرتبطة به.
يمثّل الدولار تعهّداً أميركيّاً للعالم بأن تبقيه ذا قيمة محترمة مقابل أن تهيمن به على النظام الماليّ العالمي. ويمكن القول إنّ أميركا خانت العهد مرّتين على الأقلّ في التاريخ:
- الأولى عام 1971، حين أعلن الرئيس ريتشارد نيكسون تعليق تحويل الدولار إلى الذهب، وبعد عامين انتهى الربط رسمياً بين الدولار والذهب، فانتهى فعليّاً نظام “بريتون وودز”.
- والثانية عام 1985، عبر “اتفاقية بلازا” الشهيرة، حين ضغطت الولايات المتحدة على القوى الاقتصادية العظمى في ذلك الزمان، ألمانيا الغربية واليابان وكندا وبريطانيا، للقيام بجهد منسّق لرفع قيم عملاتها مقابل الدولار، لا سيما المارك الألماني والين الياباني، وأدّى ذلك عمليّاً إلى كبح صعود اليابان في العقود التالية، بعدما كان لديها ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
في المحطّتين أُثيرت تكهّنات كثيرة بأنّ هيمنة الدولار ستسقط عاجلاً أم آجلاً، وهو ما لم يتحقّق حتّى اليوم. إلّا أنّ من المهمّ ملاحظة أنّ حصّة الدولار من احتياطات البنوك المركزية انخفضت بشكل ملموس في العقدين الماضيين، وأصبحت نحو 58% فقط، فيما يُلاحظ أنّ الصين خفضت محفظتها من سندات الخزينة الأميركية، أي من الدولار، بأكثر من 300 مليار دولار في السنوات الأربع الأخيرة، ويتوقّف حجمها حاليّاً عند 760 مليار دولار تقريباً، فيما عزّز البنك المركزي الصيني محفظته من الذهب بأكثر من عشرة ملايين أونصة في العامين الماضيين.
ترامب يطلب المستحيل
يسود الحديث في الإعلام الأميركي هذه الأيّام عن احتمال سعي ترامب إلى خفض قيمة الدولار بشكل كبير لتعزيز تنافسيّة الصادرات الأميركية، وهو الذي لا يكفّ عن اتّهام الصين بخفض عملتها بشكل مصطنع. لكنّ الأمر ليس بهذه السهولة، بل يتطلّب تعاوناً من البنوك المركزية الكبرى كما حدث في الثمانينيات، وهذا غير متاح إلّا باتّفاق كبير لا يبدو في الأفق.
الصين في 2025 مختلفة تماماً عن اليابان في 1985، وهي ترى بأمّ العين عواقب رضوخ جارتها لضغوط واشنطن. ولا شكّ أنّ لدى بكين أوراقاً متعدّدة لتلعبها اليوم، لكن بكثير من العناية. فعندما ترفع الولايات المتّحدة الرسوم على عشرات الدول ستخفّف تلك الدول تجارتها مع الولايات المتحدة، وربّما يزداد الترابط التجاري بين الصين وأوروبا وبريطانيا ودول شرق آسيا والشرق الأوسط، وسيشكّل ذلك فرصة لتعزيز منصّات التسويات البديلة. وهذا ما يفسّر التهديد الأميركي المباشر لأيّة محاولة من قبل “بريكس” لتطوير منصّة التسويات البديلة عن الدولار.
الأكيد أنّ النظام القديم انتهى، وسيستغرق إرساء النظام الجديد سنوات من الرسوم والاتّفاقات والتحالفات فوق الطاولة وتحتها، ولن يكون من السهل إيجاد ملاذٍ آمنٍ وسط هذه الفوضى.
عبادة اللدن
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.