حديث الجمعة _ كن حريصاً، ولكن…

0

المهندس بسام برغوت
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “احرص على ما ينفعك“.
إذا تأملنا قول الله تعالى: “لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ“ (سورة التوبة)، نجد أن الله تعالى يمدح نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم في حرصه على المؤمنين واهتمامه بهم وبتعليمهم ورعايتهم.
وإذا تأملنا قول الله تعالى: “وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ” (سورة البقرة)، نجد أن الله عزوجل يذم الحريصين على متاع الدنيا من مال ومناصب، وهذا يدلنا دلالة واضحة إلى أن الحرص نوعان: حرص محمود وحرص مذموم.
الحرص المحمود: هو حرص المرء على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وحرصه على صحته وعافيته فلا يعرضها على الأخطار والأضرار فلا ضرر ولا ضِرار، وحرصه على ماله فلا يضيعه ولا يبذر فيه، كما قال الله تعالى: “وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا” (سورة الإسراء). وكذلك الحرص على اتقان العمل فإن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه، فكل أمر ينفع الانسان والمجتمع يجب الحرص عليه.
ومن هذا الحرص النافع حرص المسؤولين على وطنهم ومواطنيهم، فيقدمون المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وإلا تحول الحرص الى حرص مذموم فيه معنى الأنانية، وحب المناصب والجاه، ولذلك فإن من المعيب أن نجد من يحرص على منصب ما وهو يعلم أن هناك من هو أكثر كفاءة وخبرة وأهلية منه، ولا يفسح المجال له، كل ذلك من باب الحرص المذموم، هذا الحرص الذي يجعل صاحبه شحيحا بخيلا، لا يفكر الا بنفسه ولا يرجو غير مصلحته، ومن نجاه الله منه فهو من الناجحين المفلحين المحبوبين عند الله، قال تعالى: “وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” سورة الحشر.
ومن الحرص المذموم الحرص على جمع المال والتعلق به، كما قال الله تعالى: وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا “ (سورة الفجر).
وقد ذكر القرآن الكريم حقيقة واقعة في حياتنا فقال سبحانه: “زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ” (سورة آل عمران) ولكنه وجه المؤمنين في الآية بعدها الى الحرص النافع وهو الحرص على إرضاء الله تعالى، فقال: “قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ“ (سورة آل عمران).
من هنا ينبغي أن يتحرك الحرص في نفس المؤمن ضمن الأطر الشرعية والعقلية والبشرية، أما إذا كان الحرص يؤثر سلباً على النفس فذلك حرص سلبي؛ لأنه تعدى ما يجب من بذل الأسباب والجد والاجتهاد، إلى تعلق النفس بحصول النتائج، ولذلك يقول الله جل وعلا: “وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ”، وقال: “فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ” (سورة فاطر)، وقال: “فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً” (سورة الكهف)، وقال “لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ” (سورة الشعراء)، فكل هذه الآيات تقول للنبي صلى الله عليه وسلم كن حريصا على إيمانهم، ولكن الحرص الذي يؤدي إلى إجهاد النفس وإرهاقها بأنواع الضغوط النفسية فلا داعي له؛ لأن هداية البشر بيد الله جل وعلا، لا نملكها نحن البشر، وإنما نملك البلاغ، قال تعالى: “إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ“ (سورة الشورى)، وقال: “فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ” (سورة النحل).
فالواجب يقتضي الاعتدال في الدعوة، والتفريق بين الحرص على المبادرة وبذل الأسباب واستفراغ الوسع، وبين الحرص الذي يحطم النفس إن فات مقصودها، فذلك حرص على ما لم يجعله الله إلينا، وليس وراؤه إلاّ إثقال النفس بالهموم وإحراقها، أما العمل الدؤوب وبذل الجهد وما باليد من الأسباب الشرعية المقدورة فحري أن نحرص عليه، وهذا من جملة الحرص الإيجابي طالما لم يكن على حساب الواجبات الأخرى، أما أن تتبع نفسك أمراً ليس إليك وتملؤها غماً إذا فاتك ما تصبوا إليه، فذلك الحرص الذي قد يصل بك إلى التشاؤم واليأس والقنوط فالاعتزال.
ختاماً،
إن الحرص الذي يؤدي الى تَرْك كثير من الواجبات، والوقوع في كثير من المُحرَّمات، يجعل صاحبَه مكروهًا عند الله منبوذًا من محيطه ومجتمعه؛ أما الحرص الذي يؤدي الى نفع المجتمع والنهوض به أو فيه الحفاظ على الدين والعافية والمال فهذا يجعل صاحبه محبوبًا عند الله مطلوبا من محيطه ومجتمعه، وهناك فرق واضح بين الحرص “مع“ والحرص”على”، فعلى سبيل المثال نرى ان الحرص مع العائلة بالبخل هو حرص مذموم، بينما الحرص عليهم بحسن رعايتهم هو حرص محمود، كما أن الحرص مع الأصدقاء أنانية وهو حرص مذموم، بينما الحرص عليهم بمودتهم وزيارتهم هو اهتمام وحرص محمود.
لذلك نقول: “كن حريصا، ولكن..”.
المهندس بسام برغوت

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.