حديث الجمعة – قراءة معاصرة في خطبة الوداع

47

المهندس بسام برغوت

عندما أعلن النبي صلّى الله عليه وسلّم عن نيته بأداء فريضة الحج، توافد كثير من المسلمين الى المدينة المنورة بُغية مرافقة النبيّ عليه السلام في أداء هذه الشعيرة المفروضة، ولم يحجّ النبي غير حجته هذه والتي عُرفت بحجة الوداع، ذلك أنّه صلّى الله عليه وسلم ودّع فيها الناس، كما عرفت ايضاً بحجة البلاغ ذلك ان النبي صلى الله عليه وسلم بلّغ فيها شرع الله وأسس الدين القويم، كما حمّلهم أمانة التبليغ، وفي هذه الحجّة نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم قول الله تعالى: “ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا” (سورة المائدة).

ركز النبي صلّى الله عليه وسلّم في خطبة “حجّة الوداع“ على كثير من القضايا ومن اهمها:-

الدعوة إلى الاعتصام بالقرآن والسنة على اعتبار انهما المنهج الثابت لتحقيق التمكين، وتحمل هذه الدّعوة إشارةً إلى نبذ المناهج الأرضية البشرية، التي تثبت فشلها على الدوام، قال جل شأنه: “وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ” (سورة الحج).

التركيز على اعتبار المؤمنين إخوةٌ، أخوّةٌ تقوم على أساس رباط العقيدة الوثيق، وهو رباطٌ يُقدّم على كلّ الروابط الأخرى التي تقوم على النسب والقرابة والدم، وقد كان هذا منهجاً عملياً له أولويةٌ في الدولة الإسلامية، حيث تمثّل بأبهى صوره عندما آخى النبي صلّى الله عليه وسلّم بين المهاجرين والأنصار، ولقد أثنى المولى سبحانه على نبيّه محمدًا عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم عندما وصفهم جل شأنه بقوله: “ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ألْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَـاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ” (سورة الفتح).

التأكيد على حقيقة بالغة الأهمية وهي أنّ التفاضل بين البشر قائمٌ على أساس التقوى، وأنّه لا فضل لعربيٍ على أعجميٍ، ولا لأعجميٍ على عربيٍ إلّا بالتقوى، وبهذا يكون الإسلام السّباق إلى إلغاء كلّ ألوان التمييز العنصري بين البشر.

تحريم الرّبا بكلّ صوره، فقد أحلّ الله سبحانه وتعالى البيع، وحرّم الربا، وقد كان الأمر بتحريم الربا والتشنيع على المصرّين عليه من آخر الآيات نزولاً في القرآن الكريم، حيث يقول الله عزّ وجلّ: “ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَـانُ مِنَ الْمَسّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَاْ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَا“ (سورة البقرة)، ولا شكّ أنّ الإسلام عندما حرّم الربا وشدّد على حرمته كان حريصاً على حماية أموال الناس وأميناً في الدعوة إلى الاستثمار ونمو الاقتصاد، وتكشف الأزمات المالية العالمية أنّ منهج الإسلام في المعاملات المالية هو المنهج الذي كان ولازال حتى يومنا هذا يضمن حماية أموال الناس وممتلكاتهم.

التأكيد على تغليظ حرمة الدماء والأموال والأعراض، وبيان حُرمة الخصومات والمشاحنات والاقتتال بين المسلمين؛ فقد عظّم الإسلام حُرمة سفك الدماء، كما شدّد على ضرورة المحافظة على أموال الناس وحمايتها من الغصب اوالسرقة، سواءً كانت أموالاً عامةً أم خاصةً، وشدّد الدين العظيم على حُرمة غصب الأموال وسرقتها، سواء كانت أموالاً عامةً أو اموالاً خاصةً، وهذه التوجيهات النبوية الراشدة كلها تصبّ في مقاصد الشريعة التي تدعو إلى حفظ الضرورات وأهمها: النفوس والأموال والأعراض، وهذا ناشىٌ عن عقيدةٍ سمحةٍ تحترم المسلم وتحفظ له كيانه ومقومات وجوده.

تحريم الأخذ بالثأر وإبطال عادات الجاهلية، كما وارسى مفهوم الدولة والمواطنة بين مختلف شرائح المجتمع بحيث لم يعد يجيز للانسان ان يقيم حدّاً أو يثأر لنفسه دون الرجوع او رفع الامر إلى ولي الأمر والقضاء؛ فالدولة في الإسلام هي الملزمة بالحفاظ على النظام العام وحماية أرواح الرعية، وهي ملزمةٌ كذلك بتنفيذ العقوبات وإقامة الحدود على من يستوجب فعله ذلك .

التحذير من غواية الشيطان ووساوسه، واحترام الأسس والقيم التي لا تتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية.

التأكيد على أمر تعظيم مكة المكرمة، وتبيين فضلها ومنزلتها، وقد تفضّل الله سبحانه بأنْ جعلها حرماً آمناً؛ فحرّم الاعتداء والعدوان فيها كما حرّم ترويع الآمنين، وقد تأكّدت حُرمتها بعد الفتح حيث رسّخ النبي عليه الصلاة والسلام فيها دعائم التوحيد، ونشر العدل والمساواة وأرسى قيم العفو والتّسامح والسلم المجتمعي.

الحثّ على رعاية حقوق النساء، واعطاهم دورهم في المجتمع ليشكل بذلك اول حركة عالمية لتفعيل وتعزيز وجودهم في صلب حياة الشعوب بعد ان كانوا مهمشين مشيراً الى ان بر الام من واجبات الابن كما أنّ الإحسان إلى الزوجة من واجبات الزوج، لا فضلاً منهما عليهما، وعلى المسلم أنْ يدرك أنّ الزوجة ليست ملاكاً معصوماً عن الأخطاء، وهذا يُوجب عليه أنْ يتفهّم بعض ما قد يقع منها من أخطاءٍ بسعة صدرٍ، فكان ان نادى بحقهم في الخطبة موصياً بهم خيراً لقوله : “ استوصوا بالنساء خيراً”، ومحذراً من التقصير في حقهم لانهم امانة من عند الله عند الرجال، فلا يجوز لهم الغدر بهم، او خيانتهم.

ختاماً، اعتمد الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع أسلوبًا عقليًا قائمًا على إيراد الحقائق، ومخاطبة العقل كي يميز بين الحق والباطل، كما اعتمد الرسول الكريم أسلوبًا مؤثرًا ليشد انتباه السامعين إلى أقواله وقد تأتى له ذلك من خلال المقابلة والموازنة بين الجمل والعبارات، وكان أسلوبه عليه السلام قويًا متينًا حيث اعتمد الجمل الفعلية أكثر من غيرها ليكسب النص قوة وتأثيرا كما اعتمد المزاوجة بين الخبر والإنشاء، ولم يتح المجال للعاطفة للظهور كثيرًا أو للخيال أن يحلق بل بقي بسيطًا وفق ما اقتضاه الحال.

المهندس بسام برغوت

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.