حديث الجمعة – السكينة هبة إلهية

9

المهندس بسام برغوت

السكينة في القرآن الكريم: المفهوم، المواضع، والدلالات

السكينة هي حالة من الطمأنينة والراحة والهدوء الداخلي، وهي شعور ينشده كل إنسان، خاصة في أوقات الشدة والقلق والتقلبات. وقد جاء ذكر السكينة في القرآن الكريم في سياقات متعددة، تعكس مدى أهميتها في حياة المؤمنين، وتدل على أنها من النعم الربانية التي ينزلها الله في قلوب عباده، فتثبتهم وتمنحهم الأمان والطمأنينة.

أولًا: مفهوم السكينة

السكينة لغةً مأخوذة من “سَكَنَ” أي استقرّ وهدأ. ويُقال: “سكَن القلب” أي اطمأن وارتاح، وهي ضد القلق والاضطراب. أما اصطلاحًا، فالسكينة هي طمأنينة القلب وسكون النفس، وهي شعور يمنحه الله لعباده ليقويهم ويثبتهم على الإيمان، خاصة في أوقات الشدة والمحن.

يقول العلامة ابن القيم في “مدارج السالكين”: “السكينة روح من الله، يسكن إلى من يشاء من عباده، تطمئن بها النفوس، وتثبت بها القلوب عند المخاوف”.

ثانيًا: مواضع ذكر السكينة في القرآن الكريم

ذُكرت السكينة في القرآن الكريم ست مرات، وكلها تدل على ارتباط هذه النعمة الإلهية بالثبات القلبي، والتأييد الرباني، وطمأنينة النفس في المواقف العصيبة:

1 – في غزوة بدر: قال تعالى: “إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا“ (سورة الأنفال) وفي نفس السياق قال: “ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ“ (سورة التوبة) هنا نزلت السكينة في موقف يتطلب الثبات في مواجهة العدو.

2 – في صلح الحديبية: قال تعالى: “هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ“ (سورة الفتح)، الموقف كان حساسًا، حيث بدا للصحابة أن في الصلح تنازلًا، لكن الله أنزل السكينة في قلوبهم فاطمأنوا.

3 – عند بيعة الرضوان: قال تعالى: “لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ…”، ثم قال: “فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ“ (سورة الفتح)، فأنزلها عليهم تثبيتًا وتأييدًا لبيعتهم وصدقهم.

4 – في غار ثور عند الهجرة: قال تعالى: “إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ“ ثم قال: “فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ“ (سورة التوبة) وهذا يدل على أن السكينة تكون عند أعظم المواقف التي يخشاها الإنسان.

السكينة ليست مجرد شعور لحظي بالراحة، بل هي حالة دائمة من الاطمئنان القلبي التي تُبنى على الإيمان والرضا والتسليم لله. حينما يُدرك الإنسان أن أموره كلها بيد الله، وأن كل ما يمر به من ضيق أو محنة هو لحكمة يعلمها الله وحده، تهدأ روحه، ويشعر بالسكينة تسري في أعماقه.

ثالثًا: السكينة بين الإيمان والنصر

نلاحظ في جميع الآيات أن السكينة تأتي في سياق الإيمان، وأنها تسبق النصر أو تأتي معه. فالله ينزلها على المؤمنين لتثبيتهم، ثم يعقبها النصر والتمكين. فالعلاقة بين السكينة والإيمان علاقة طردية؛ كلما زاد الإيمان، زادت السكينة. وكلما نزلت السكينة، زاد الإيمان.

رابعًا: السكينة هبة إلهية لا تُكتسب

السكينة ليست شيئًا يمكن للإنسان أن يحصّله بجهده فقط، وإنما هي منحة من الله يهبها لعباده المؤمنين. ولم يقل: “فأخذ السكينة” أو “فطلبها” وهذا يدل على أن السكينة رزق من الله، يهبه لعباده في الوقت الذي يشاء، وبالقدر الذي يشاء.

ومن المدهش أن السكينة لا ترتبط بالرخاء المادي، فقد يعيش الإنسان في نعيم دنيوي لكنه لا يشعر بالراحة، بينما آخر يعيش في ضيق لكنه ممتلئ بالسكينة، والفرق هنا في الصلة بالله. ولهذا كانت السكينة علامة على رضا الله، وبشارة للثبات، وقوة في وجه الابتلاء.

خامسًا: أثر السكينة في حياة الإنسان

للسكينة أثر بالغ في حياة الفرد والمجتمع، ومن أهم هذه الآثار:

  • الطمأنينة النفسية: تمنح السكينة راحة داخلية لا يمكن أن يوفرها المال أو الجاه أو الشهرة.
  • الثبات في الأزمات: في اللحظات العصيبة، تكون السكينة هي العامل الأساسي في الصمود.
  • تقوية الإيمان: كلما شعر المؤمن بالسكينة، ازداد يقينه بالله واطمأن قلبه.
  • نشر السلام: الشخص الذي يتمتع بالسكينة ينشر من حوله الطمأنينة، ويكون عنصر تهدئة في المجتمع.

سادسًا: كيف نطلب السكينة؟

رغم أن السكينة هبة إلهية، إلا أن هناك أعمالًا ووسائل يمكن أن تكون سببًا في نيلها، منها:

1 – الذكر: قال تعالى: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب” (سورة الرعد)

2 – القرآن الكريم: فالقرآن مصدر السكينة، يُقرأ فتسكن به القلوب وتطمئن النفوس.

3 – الدعاء والتوكل على الله: من تعلق قلبه بالله، أنزل الله عليه سكينته.

4 – الصلاة والعبادة: الصلاة من أعظم مصادر الطمأنينة، وهي لقاء خاص بين العبد وربه.

وفي عالم اليوم، حيث تتسارع الأحداث وتكثر الضغوط، تصبح السكينة مطلبًا ضروريًا لا رفاهية، وهي لا تُنال بكثرة المعلومات أو الانشغال، بل بقلب حي متصل بالله، يكثر الذكر، ويطمئن بوعده، ويرضى بقضائه. إنها حالة من السلام الداخلي، يهبها الله لمن علم أنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه.

ختاماً،

السكينة في القرآن الكريم ليست مجرد كلمة تُتلى، بل هي حالة روحية عظيمة تنزل من عند الله لتغمر القلوب وتمنحها الأمن والاستقرار، خاصة في أوقات الشدائد. وهي نعمة عظيمة لا يعرف قدرها إلا من ذاقها، ولا تُنال إلا بقرب القلب من الله. فلنسعَ دائمًا أن نكون ممن يستحقون هذه المنحة الربانية، بالصدق في الإيمان، وحسن التوكل، وكثرة الذكر، واليقين برحمة الله.

المهندس بسام برغوت

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.