ثلاثة برامج للبنان بعد سقوط حكم “اتّفاق الدّوحة”

43

بقلم عبادة اللدن

«اساس ميديا»

أسقطت الحرب الراهنة، من جملة ما أسقطت، حكم “اتّفاق الدوحة” الذي تشكّل بمفاعيل حرب تموز 2006، والموازين التي أرساها في المستوى الداخلي. لم يعد الحزب هو نفسه ذلك الحزب الذي فرض ثلاثية الاعتراف بسلاحه كلازمة لا فكاك منها في أيّ بيان وزاري، وحوّل الثلث المعطّل إلى عرف دستوري. لكنّ جمهورية ما بعد اتفاق الدوحة ما زالت في طور التشكّل في عين الإعصار والصراع بين ثلاثة لاعبين: إيران والولايات المتحدة وإسرائيل.

بالنسبة لإيران، لا يحتاج نموذجها في لبنان إلى تفسير. فهو مطبّق ومجرّب منذ عام 2008. وملخّصه الآتي:

– أن يمسك الحزب بمفاصل أساسية في الأمن والسياسة.

– وضمان حرّية التحرّك العسكري وطُرق الإمداد عبر المعابر البرّية والجوّية والبحرية، الشرعية وغير الشرعية.

– أن يمتلك قوّة التعطيل في المؤسّسات الدستورية بالاستناد إلى حلفاء في الطوائف الأخرى يسلّمون له بالإرادة السياسية في المسائل الاستراتيجية.

– وذلك مقابل التسليم لهم بمكاسب في اللعبة الداخلية كان يُعبّر عنها بـ”الهدايا”، سواء في المقاعد النيابية أو الوزارية، أو في التعيينات، أو في ترك الحبل على الغارب للفساد والتلزيمات.

نهاية النّموذج… وتفرّق الحلفاء

إلا أنّ هذا النموذج لن يكون قابلاً للتجديد بالصيغة نفسها بعد الحرب، حتى لو “انتصر” الحزب بمعاييره، لأسباب عدّة أهمّها أنّ تحالف “الثلث المعطّل” نفسه تفكّك ولم يعد قابلاً للاستمرار بسبب ضعف القبضة العسكرية للحزب من جهة، والتنافس على المكاسب بين حلفاء الحزب من جهة أخرى. وليس تنصّل جبران باسيل من وصف “الحليف” في الوقت الراهن سوى واحد من معالم هذا الوهن.

لذلك سيتطلّع الحزب إلى صيغة جديدة تقلّ فيها الهدايا ويتوسّع فيها التمثيل المباشر. وليس غريباً أن نسمع من يدعو إلى الخروج من صيغة “وقف العدّ” التي أرساها الرئيس الشهيد رفيق الحريري في الطائف.

أمّا واشنطن فليس واضحاً ما إذا كان لديها تصوّر مكتمل لما تريد أن يكون عليه لبنان في اليوم التالي للحرب. وليس أكيداً أنّها تستطيع تنفيذ أيّة استراتيجية، إن وجدت. غير أنّ النقاط الأساسية المتعلّقة بمشروع وقف إطلاق النار التي حملها آموس هوكستين إلى بيروت وتل أبيب، تتطلّب بالضرورة إعادة بناء السلطة في لبنان، من رئاسة الجمهورية إلى الحكومة ومجلس النواب (يحكى عن انتخابات مبكرة). والأهمّ أنّ كلّ الأفكار الأميركية حول إعادة بناء فكرة الدولة اللبنانية تدور حول مؤسّسة واحدة مجرّبة بالنسبة إليها، هي الجيش. هذه المؤسّسة يفترض أنّها قادرة على توحيد السلاح وفرض سلطة واحدة جنوب الليطاني وشماله.

أسئلة الجيش والدّولة

لكن هل الجيش مؤهّل لسدّ خواء المؤسّسة السياسية وتناحر أطرافها؟

كانت مشكلة الدولة منذ نشأتها طغيانَ القوى السياسية على القوّة الجامعة للمؤسّسة العسكرية. وهو ما عطّل حركة المؤسّسة العسكرية منذ “الثورة” على الرئيس كميل شمعون عام 1958، امتداداً إلى الانقسام الكبير في السبعينيات. ثمّ طغت الوصاية السياسية على دور الجيش، وكذلك فعل سلاح الحزب بعد الانسحاب السوري عام 2005.

بعد ثورة 17 تشرين 2019، تهشّمت الصورة النمطية للقوى السياسية التقليدية. لكنّ الانتخابات الأخيرة أظهرت أنّ الطفح الإعلامي شيء وواقع التركيبة السياسية شيء آخر. وطرأ “التعادل السلبي” الذي أعاق انتخاب رئيس للجمهورية وإعادة تشكيل السلطة. فاهترأت المؤسّسات العامّة ما خلا المؤسّسة العسكرية التي ظلّت فاعلة بالحدّ الأدنى، بفضل الدعم المالي الأميركي والقطري.

الجيش… وظلال 1982

يقارن ديفيد إغناتيوس في “واشنطن بوست” بين اللحظة الراهنة ولحظة ما بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وما قبل انفجار السفارة الأميركية في 18 نيسان 1983. في ذلك اليوم تحديداً قابل إغناتيوس مسؤولاً أميركياً في سفارة بلاده في بيروت، فرسم له “صورة وردية” للجيش اللبناني الذي تسعى واشنطن إلى بنائه ليوحّد السيادة على الأراضي اللبنانية بعد الانسحاب الإسرائيلي. بقيّة القصّة معروفة: بدأت إيران الانقلاب على الخطّة الأميركية، وأكملت سوريا المهمّة.

أخطأ الحزب في قراءة عقل إسرائيل

في الجانب الإسرائيلي ما زالت الصورة ضبابية. ولو أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أعلن الخطوط العريضة لاستراتيجيّته تجاه لبنان بعد زيارة هوكستين لتل أبيب. وربّما أهمّ ما فيها أنّه وضعها في إطار الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه إيران، التي أدخل فيها ما سمّاه “مفهوم النصر الكامل”. قال بوضوح إنّ سبب تأخير الحرب على لبنان بعد 7 أكتوبر 2023 كان “عدم توزيع القوات بين جهدين أساسيّين في الوقت ذاته”، وهذا يؤكّد أنّ الحزب أخطأ في قراءة العقل الإسرائيلي حين اعتقد أنّ التصعيد في الجنوب يمكن أن يبقى في إطار قواعد اشتباك مُدارة تسمح لإيران بالجلوس إلى طاولة التفاوض.

و”النصر الواضح” يعني بالمفهوم الإسرائيلي تقويض القدرات العسكرية للحزب على نحوٍ يجعله غير قادر على تهديد إسرائيل مجدّداً، ومنع إعادة تسليحه، ولو اقتضى ذلك فرض حصار برّي وجوّي وبحري على لبنان. كما يعني إنشاء منطقة عازلة مدمّرة تحت مرمى النيران، وإعطاء الحرّية للجيش الإسرائيلي للتوغّل في الأراضي اللبنانية متى أراد.

لكن في البعد الداخلي اللبناني، لا يبدو أنّ إسرائيل مهتمّة بوجود سلطة مركزية مقتدرة تسمح بترميم دور لبنان الاقتصادي وتصالحه مع محيطه العربي. الأرجح أنّ ما تريده إسرائيل للبنان لا يختلف كثيراً عمّا تريده للضفة الغربية وقطاع غزة. فمن لا يريد دولة هناك لا يريد دولة هنا. ومن أفسح المجال لسيطرة “حماس” على غزة كاستراتيجية لترسيخ الانقسام الفلسطيني لن تكون لديه مشكلة في تعدّد السلاح في لبنان ما دام يخدم الانقسام الداخلي ولا يشكّل تهديداً له.

إسرائيل أيضاً لا تريد “دولة” في لبنان

يريد نتنياهو الآن حكماً ذاتياً فلسطينياً في أضيق الحدود، مع سيطرة أمنيّة إسرائيلية. وهو يريد في لبنان دولة فارغة من المضمون، يستبيح سيادتها متى شاء، ويظلّ الحزب فيها عنصر ضعف وانقسام.

أمام هذه البرامج الثلاثة لا بدّ من سؤال عن البرنامج العربي. ربّما الدول العربية، والخليجية تحديداً، هي الوحيدة التي يسوء حال لبنان في حال إحجامها، لا في حال إقدامها. تتعمّق مشكلة البلد حين يبدي العرب لامبالاة تجاهه وينتعش حين يكون على الصورة التي يريدونها له: واحة للاستثمار والطبّ والخدمات والسياحة. هكذا قدّمت السعودية للبنان اتفاق الطائف وشكّلت قوّة الدفع الرئيسية خلف مشروع إعادة الإعمار، وخلف “باريس 1″ و”باريس 2” و”باريس 3″، وكانت المقدّم الأكبر للمساعدات بعد حرب تموز 2006. لكنّها لم تُقابَل إلا بتهديد أمنها من خلال انخراط الحزب في حرب اليمن، وتهريب الكبتاغون، وفتح الأبواق الإعلامية المعادية.

ثمّة قبس يلوح من المبادرة السعودية لعقد قمّة متابعة عربية إسلامية في 11 الجاري في الرياض لبحث “العدوان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية والجمهورية اللبنانية”. غير أنّ تجارب التاريخ تشير إلى أنّ الدور العربي، والسعودي تحديداً، لا يتقدّم إلا حين يتعب المتصارعون وتصل الحروب إلى منتهاها العدميّ.

عبادة اللدن

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.