تشرشل عارياً في البيت الأبيض
بقلم محمد السماك
«أساس ميديا»
يتزاحم رؤساء الدول للاجتماع بالرئيس الأميركي دونالد ترامب في البيت الأبيض. وربّما أكثرهم زيارةً لهذا البيت هو رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. ولكنّه بالتأكيد ليس أهمّهم. فمن استطاع أن يقول لا؟ ومن أُجبر على قول نعم؟
يذكر التاريخ أنّ رئيس الحكومة البريطانية الأسبق ونستون تشرشل كان من أكثر زوّار البيت الأبيض. فقد أقام فيه عدّة مرّات. وزياراته موثّقة في كتاب جديد للمؤرّخ الأميركي روبرت شموهل عنوانه: “السيّد تشرشل في البيت الأبيض”.
يقول المؤرّخ إنّ زيارات تشرشل لم تكن تقتصر على الزيارة وحسب، لكنّها كانت زيارات إقامة. وكانت إقامته تستغرق أيّاماً وأحياناً أسابيع.
يذكر المؤلّف أنّ تشرشل كان يقضي أوقاته في الجناح المخصّص للضيوف عارياً تماماً إلّا من كأس ويسكي بيده وسيكار في فمه. زاره يوماً الرئيس الأميركي روزفلت ووجده على هذه الحال. فبادر تشرشل الرئيس الأميركي بقوله: “كما ترى أيّها السيّد الرئيس، لا يوجد عندي شيء أخفيه عليك”.
لكنّ ذلك لم يكن صادقاً. فخلال إقامته ضيفاً مكرّماً في البيت الأبيض، كان يعمل أحد كتّاب السيناريوهات السينمائية، بتكليف من المخابرات البريطانية وبمعرفة تشرشل شخصيّاً، على إعداد سيناريو يصوّر فيه ألمانيا النازية تخطّط لاحتلال دول في أميركا الجنوبية، ثمّ الالتفاف على الولايات المتّحدة. وكان على تشرشل تقديم هذا السيناريو المفبرك على أساس أنّه معلومات حصلت عليها وكالة المخابرات البريطانية عن النوايا التوسّعية لهتلر. ويبدو أنّ هذا السيناريو، الذي جرت فبركته خلال إقامة تشرشل في البيت الأبيض، كان كافياً لإقناع الرئيس الأميركي روزفلت بدخول الحرب العالمية الثانية ضدّ النازيّة! وهكذا استمرّت إقامة تشرشل العاري في البيت الأبيض إلّا من سيكاره وكأس الويسكي.
استجواب واعتراف
عاد تشرشل إلى لندن مطمئنّاً بعدما استدرج الولايات المتّحدة إلى الحرب ضدّ النازية، على عكس الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي عاد من البيت الأبيض إلى كييف مجروح الكرامة، حتّى إنّ ترامب فضّل عليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
لكنّ زوّار الرئيس ترامب لديهم الكثير ممّا يخفونه عليه. وربّما أهمّ ما يخفونه هو عدم الثقة به وعدم الرضى عن مواقفه. هكذا حدث مع ملك الأردن ومع وليّ عهد البحرين.
أعرب عن ذلك الرئيس الأوكراني الذي جرّده الرئيس ترامب من كلّ ملابسه المعنوية وأخرجه من البيت الأبيض مطروداً. وذلك على الرغم من أنّ سلفه الرئيس جو بايدن موّل الدولة الأوكرانية بمئات المليارات من الدولارات، أسلحة وذخائر ومساعدات اقتصادية مباشرة، أو عبر حلف شمال الأطلسي.
يتناوب على “الكرسي” في البيت الأبيض إلى جانب الرئيس ترامب، رؤساء دول من الشرق والغرب. يبدأ اللقاء “بالاستجواب”. وينتهي “بالاعتراف”. الرئيس ترامب هو الذي يستجوب، والرئيس الضيف هو الذي يعترف. حاول الرئيس الأوكراني أن يتمرّد على هذه الصيغة، فكان عقابه الطرد والتشهير ثمّ الابتزاز بثروة أوكرانيا من المعادن النادرة. تعلّم الآخرون، فمنهم من تغيّب، ومنهم من اعتصم بفضيلة الصمت، أو الاكتفاء بابتسامة تعكس عمق الألم الداخلي.
اعتراف والتزام
كان في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض تمثالٌ لرأس ونستون تشرشل قدّمته رئيسة الحكومة البريطانية السابقة مارغريت تاتشر هديّة إلى الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، الذي كان يحاول تقليد تشرشل في سلوكه السياسي إعجاباً به. إلّا أنّه بعد فوز الرئيس باراك أوباما بالرئاسة، كان أوّل عمل قام به لدى دخوله البيت الأبيض هو “تنظيف” المكتب البيضاوي من هذا التمثال. فقد اعتبر وجوده مستفزّاً ومقزّزاً على حدّ قوله. ذلك أنّ تشرشل كان أثناء خدمته العسكرية في شرق إفريقيا مسؤولاً عن مكافحة حركات التحرّر الوطني، خاصّة في كينيا. وقد أدّى به الأمر إلى اعتقال الآلاف من الوطنيين وزجّهم في السجون والمعتقلات، حيث قضى العديد منهم تحت التعذيب، وكان من بينهم جدّ الرئيس أوباما لأبيه.
إلّا أنّ البيت الأبيض الذي ضاق ذرعاً بتمثال تشرشل في عهد أوباما، ملأ المكتب البيضاوي حضوراً مؤثّراً، خاصة لدى لقاء ترامب – نتنياهو، ذلك أنّ تشرشل كان أحد عرّابي استيلاد إسرائيل وتصفية الوجود الفلسطيني خلال الحرب العالمية الثانية.
سبق البيت الأبيض (الولايات المتحدة) الكرملين (الاتّحاد السوفيتي) في الاعتراف بإسرائيل عام 1948، وتحوّل هذا الاعتراف إلى التزام سياسي – عسكري – اقتصادي لا يزال مستمرّاً حتّى اليوم.
لا تختلف سياسة الحزب الجمهوري عن سياسة الحزب الديمقراطي إزاء إسرائيل إلّا من حيث بعض الشكليّات. يشهد على ذلك البيت الأبيض حيث كان الرئيس السابق جو بايدن يستقبل نتنياهو، وحيث يستقبله اليوم الرئيس الحالي دونالد ترامب بالحفاوة والترحيب والالتزامات الماليّة والسياسية والعسكرية نفسها.
من المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، أعلن الرئيس دونالد ترامب نقل مقرّ السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس باعتبارها عاصمة لاسرائيل. وأعلن حقّ إسرائيل في احتلال مرتفعات الجولان. ومن المكتب البيضاوي أيضاً أطلق مشروع “الطريق الإبراهيمي”، وكلّ دولة عربية لا تعتمد هذا الطريق الذي يؤدّي إلى الاعتراف بإسرائيل تتعرّض لعقوبات شديدة. لكنّ في العرب من يشبه تشرشل، وها هو يقول بثبات وشجاعة: لا سلام بدون دولة فلسطين.
محمد السماك
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.