بين العقل والمعدة

37

بقلم محمد السماك

«أساس ميديا»

يروي المؤرخ البولوني وينولد زايلوسكي في كتاب جديد له القصة التالية: في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية في عام 1945 عُقد في يالطا مؤتمر لرؤساء الدول التي حاربت ألمانيا وانتصرت عليها الولايات المتحدة وبريطانيا تحديداً)، وذلك للاتفاق على تقاسم السيطرة على العالم. كان الرئيس السوفياتي الجنرال جوزف ستالين هو المضيف.

يقول المؤرخ ان ستالين تعمد إغراق ضيوفه بالكافيار الفاخر والشمبانيا المعتقة، وانه حصل منهم على ما يريد: شرق أوروبا.

وفي كتابه: « ماذا بعد مطبخ الكرملين؟»، يقول المؤرخ البولوني أيضاً ان المائدة السوفياتية كانت امتداداً لطاولة المباحثات السياسية. فحيث تعجز دبلوماسية التفاوض أو تتعثر، تستخدم دبلوماسية المائدة.

ويقول المؤلف ان دبلوماسية المائدة كانت دائماً عاملاً أساسياً في مباحثات التفاوض التي كانت تعقد في الكرملين. ولذلك فان مطبخ الكرملين كان بشكل أو بآخر أحد العوامل المؤثرة في الدبلوماسية السوفياتية وفي «فن الإقناع».

في عهد الرئيس السوفياتي الأسبق ليونيد بر جنيف مثلاً، زار الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون موسكو وحلّ ضيفاً على الكرملين. وقد صوّرته كاميرا المخابرات السوفياتية وهو يصوّر كل طبق من الأطباق التي وضعت على المائدة.

حتى ان رئيسة الحكومة البريطانية السابقة مارغريت تاتشر التي كان يُعرف عنها انها تحرص على عدم الإكثار من الطعام، كانت الى مائدة الكرملين تطلب إضافة ثانية وثالثة ورابعة في كل مرة يُقدم لها طبق جديد. وكانت كاميرا المراقبة (عيون الخدم) تصوّر هذه الوقائع وتوثقها.

ذلك ان هؤلاء الخدم كانوا يعملون في جهاز المخابرات.

ولذلك فان المطبخ السوفياتي بالعاملين فيه وبالأطباق التي يقدمها كان جزءاً من جهاز المخابرات (كي.جي.بي).

وينقل المؤلف عن أحد مسؤولي المخابرات السابقين ان الرئيس السوفياتي ليونيد برجنيف كان يلجأ الى مطبخ الكرملين بعد عودته من وليمة في الخارج ليتناول كاساً من الحليب الساخن Blinis مع طبق من البطاطا المسلوقة.

كان من أبرز وأقدم الطباخين في الكرملين جندي سابق في الجيش السوفياتي يتقن فن الطبخ وفن تقديمه، يُدعى سبيريدون بوتين، وكان عضواً في جهاز المخابرات وموضع ثقة ستالين، وقبله لينين. وهو والد الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين.

ويقول المؤلف ان بوتين الابن (أي الرئيس الحالي) كان أثناء طفولته مولعاً بالمثلجات (آيس كريم)، وكان يتناولها بنهم وانها كانت تشكل نقطة ضعفه التي لم يعرف الآخرون كيف يوظفونها كما يوظف السوفيات مطبخهم في فهم الدبلوماسية الشاقة والمعقدة.

لا تقتصر قصص كتاب المؤرخ البولوني على مطبخ الكرملين وضيوفه من زعماء وقادة العالم. ولكنه يتناول أيضاً المطابخ الأخرى الملحقة أو المتاثرة به. ويروي عن نساء أوكرانيات كيف أعددن الطعام لعمال ومهندسين كانوا يعملون في محطة تشيرنوبيل النووية بعد انفجارها (في العهد السوفياتي) من مياه ملوثة بالإشعاع المتسرب…

ولعل أكثر صفحات الكتاب سوداوية تلك التي تتعلق بقصص عن فترة المجاعة التي ضربت أوكرانيا في العهد الستاليني بين عامي (1932-1933). يقول المؤلف البولوني ان الناس أكلوا أوراق الشجر وجذوعها الطرية. وأكلوا الحيوانات صغيرها وكبيرها.. ويذهب الى أبعد من ذلك فيروي قصة رجل أصيب بانهيار حمله على قتل اطفاله ليتخلص من بكائهم بسبب شدة الجوع، ثم ليبحث في بقاياهم ما يسدّ به جوعه ايضاً. يرسم هذا الكتاب علامة استفهام كبيرة حول العلاقة بين المعدة والعقل.. ولكن من غير أن يجيب عليها !!.

ولعل أول مائدة في التاريخ تربط بين العقل والمعدة تلك التي أنزلها الله تعالى استجابة لدعاء السيد المسيح لإقناع حوارييه بنبوته. وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم، وتُعرف بالأدبيات الدينية المسيحية بالعشاء الأخير. يومها ذهل الحواريون وآمنوا بالمسيح ورسالته. ولكن طعام السماء غير طعام الأرض. وحواريو السيد المسيح غير حواريي سيد الكرملين وضيوفه. ولكن في الحالتين كانت المائدة وسيلة للإقناع، حيث يخاطب العقل من خلال المعدة !!.

محمد السماك

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.