المعرفة في القرار السياسي

22

بقلم محمد السماك

كانت الحرب مشروعة بين الدول حتى عام 1928، وكانت تُعد أداة من أدوات حلّ النزاعات، سواء حول الحدود أو المصالح. وكانت الدول تتعامل مع نتائج الحرب على أنها أمر واقع. فالحرب هي التي ترسم الحدود، وهي التي تحسم الجدل حول مَن هو على حق، ومَن هو على باطل، لكن في الوقت ذاته كانت الدول المتصارعة أو المتحاربة تحرّم المقاطعة، أو العقوبات الاقتصادية خاصة قبل نشوب الحروب.

مؤتمر صغير انبثقت عنه وثيقة سياسية جديدة أدى إلى تغيير الموقف رأساً على عقب. وتتجسد نتائج هذا المؤتمر في وثيقة تُعرف باسم وثيقة «كيلوغ-برياند»، وهما وزيرا خارجية الدولتين الكبيرتين في ذلك الوقت، الولايات المتحدة وبريطانيا.

ورغم إيمان دول العالم، خاصة الدول الكبرى، بأن معاهدة 1928 لن تمنع نشوب الحروب، فإن جميع دول العالم سارعت إلى إقرار المعاهدة الدولية الجديدة، واعتمادها أساساً من أسس سياساتها الخارجية.

 بين عامي 1862 و1945 تبادلت فرنسا وألمانيا السيادة على منطقة الإلزاس أربع مرات. ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ما تزال فرنسا (المنتصرة) تحتفظ بها كجزء منها، وهو أمر تتقبّله ألمانيا (المنهزمة) على مضض.. لكن إلى متى؟

تحيي فرنسا سنوياً ذكرى خمسمئة طفل من الألزاس قُتلوا في معسكرات النازية. وفي كل سنة يتحوّل إحياء الذكرى إلى تجديد حقّ فرنسا باستعادة المنطقة الأغنى بالمعادن في أوروبا، وتضطر ألمانيا إلى الصمت حتى لا يُفسَّر نفيُها لقصة الخمسمئة طفل على أنه دفاع عن النازية. وبعد الحرب العالمية الثانية اعتُمدت وثيقة كيلوغ-برياند أساساً لمحاكمة نورمبرغ التي تشكلت بعد الحرب لمحاكمة مجرمي النازية. 

وكذلك، فإن معاهدة إنشاء الأمم المتحدة تضمّنت فقرات من هذه الوثيقة، منقولة عنها بالحرف، وبموجب هذه المعاهدة أيضاً، فإن التجسس بين الدول يُعد عملاً شرعياً، ولكن التدخل المباشر في الشؤون الداخلية للدول يُعتبر عملاً غير شرعي. أن تعرف فهذا حق وشطارة، ولكن أن تستخدم المعرفة للعدوان فذلك أمر آخر. فالعدوان مدان، أما المعرفة فحقّ. بمعنى أن التجسّس مشروع، لكن الآن في عصر التقنيات الإلكترونية المتطورة، فإن التجسس أصبح أداة من أدوات الحرب، إذ إنه يكشف عن نقاط ضعف الفريق الآخر التي يمكن التسلل عبرها ومن خلالها. وقد يكون على العكس من ذلك، أداة لردع العدوان إذا ما كشف عن عناصر قوة الآخر وإمكاناته. وخلال المرحلة الانتقالية من الاتحاد السوفييتي إلى الاتحاد الروسي، واجه الكرملين صعوبات مالية واقتصادية حتى إنه اضطر إلى التوقف عن دفع رواتب الموظفين. وأدّى ذلك إلى هبوط قيمة العملة (الروبل) إلى الدرك الأسفل. كان الكرملين بحاجة للمال، وفي الولايات المتحدة الكثير منه. وكان البيت الأبيض في واشنطن بحاجة لليورانيوم، وفي روسيا الكثير منه أيضاً. وهكذا أدت الحاجتان إلى تفاهم الخصمين اللدودين. حصل الكرملين على 15 مليار دولار، وحصل البيت الأبيض على 15 ألف طن من اليورانيوم. وهي كمية كانت كافية في ذلك الوقت لتزويد الولايات المتحدة بالطاقة لمدة عامين كاملين. لم تجرِ تفاصيل الصفقة بين وفدين عسكريين روسي وأميركي، ولكنها كانت ثمرة جهود أستاذ العلوم الفيزيائية في جامعة «أم.إي.تي» الدكتور «توماس نيف» مع زميل له من جامعة موسكو.

توافقت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي (ومن بعده الاتحاد الروسي) على قبول مبدأ التجسس على الآخر، على أن تجري عملية التجسس بصورة علنية عبر طائرات استطلاع مزوّدة بأجهزة رصد عالية الدقة. مهمة هذه هذه الطائرات التحليق في فضاء الدولة الأخرى والتقاط الصور، حول مرابض الصواريخ العابرة للقارات، وللاطمئنان الذاتي بأن هذه الصواريخ ليست مهيأة للإطلاق. ومن شروط «حق التجسس» تزويد الدولة التي تجري عملية التجسّس عليها بنسخة عن الصور التي تلتقطها طائرات الاستطلاع. فالروس يتلقون المعلومات عن أوضاع صواريخهم من الطائرات الأميركية، وبالعكس.

لكن هذا الاتفاق الذي أدى اعتماده بين موسكو وواشنطن إلى تبريد صراعاتهما وإلى احتواء خلافاتهما، انهار منذ سنوات قليلة. وأدى انهياره إلى انقطاع المعرفة، وبالتالي إلى تضخم حجم الهواجس والمخاوف.. حتى وصلت إلى درجة التهديد المباشر باستخدام السلاح النووي في الحرب الأوكرانية.

 كانت كل الدول الواقعة بين روسيا والولايات المتحدة تطّلع على الصور التي تلتقطها طائرات التجسس الأميركية أو الروسية لمجرد أن هذه الطائرات تحلّق في أجواء هذه الدول، وهي في طريقها إلى أهدافها. يعكس هذا التوافق روحية معاهدة «كيلوغ-برياند» التي صدرت في عام 1928. في ذلك الوقت لم يكن هناك سلاح نووي أو صاروخي عابر للقارات، ولم تكن هناك طائرات استطلاع ولا أجهزة إلكترونية تتسلل إلى أعماق المؤسسات العسكرية والسياسية، إلا أن المبدأ العام الذي أقرته وتبنّته دول العالم فيما بعد، وضع الأسس التي لا تزال صالحة من حيث المبدأ للتعامل مع المستجدات في الصراعات الدولية. فالمعرفة لا تشجع على العدوان دائماً. قد تكون المعرفة رادعة. ومن هنا أهمية تعريف الآخر، إما لطمأنته أو ردعه. وفي الحالتين يضطر إلى إعادة النظر في حساباته قبل أن يقدم على عمل ما.

 وعلى السطح تبدو العلاقات بين دول العالم المختلفة منضبطة وخاضعة للقانون الدولي وتوازن القوى.. وفي العمق يبدو الوضع أشد تعقيداً وأعمق تداخلاً.. ومن هنا أهمية المعرفة في صناعة القرار السياسي.

محمد السماك

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.