الشق الإيراني في الشرق الأوسط الجديد

31

بقلم د.سمير صالحة

«اساس ميديا»

لعبة ردّ إسرائيل على ردّ إيران قائمة ولا مهرب من تحوّلها إلى حرب استنزاف قبل أن تصبح معركة مواجهات إعادة رسم الخرائط والحدود والتبادل الديمغرافي. السؤال هو: هل تعطي القيادة الإيرانية إسرائيل ما تريده بشأن توسيع رقعة الحرب ونقلها إلى جبهات جديدة أم لا؟ ومتى سيكون موعد الانفجار الإقليمي، قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية أم بعدها؟

تحمّل القيادات الإيرانية واشنطن المسؤولية عن إطلاق يد إسرائيل لتواصل حربها التدميرية في قطاع غزة ولبنان، وتعريض الوضع الإقليمي بأكمله للاهتزاز لأنّ مصلحة واشنطن تستدعي ذلك. آخر شيك بقيمة 9 مليارات دولار وضعته أميركا تحت تصرّف رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو لمواصلة عدوانه على الشعبين الفلسطيني واللبناني يؤكّد هذا الواقع أيضاً. فما الذي سيحاول وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن فعله خلال جولته الشرق الأوسطية الجديدة؟ وكيف ستنجح الإدارة الأميركية في إقناع دول المنطقة بحياديّتها وهي التي تتجاهل اتّساع رقعة المعارك واقتراب موعد الانفجار الكبير؟

مأزق إيران: حرب مع إسرائيل

أعلنت إيران أكثر من مرّة عن جهوزيّتها لمواجهة إسرائيل في لبنان وسوريا والعراق واليمن عبر حلفائها، لكنّ هناك ما يقلق طهران أيضاً بعد تراجع فرص مخطّطها الإقليمي المرتبط بصناعة شرق أوسط جديد بمعايير إيرانية. فهي في مأزق اليوم: هل هي مستعدّة للدخول مع إسرائيل في مواجهة عسكرية مباشرة فوق أراضي البلدين؟

وصل القلق الإيراني إلى مرتبة كيف سيكون شكل الردّ الإسرائيلي هذه المرّة. هل يكون الردّ محدوداً؟ أم منفتحاً على أكثر من سيناريو بينها استهداف مباشر للبنية السياسية الإيرانية يشمل إسقاط نظام الحكم الحالي واستبداله بنظام جديد أو دولة إيرانية بمعالم جديدة؟

وهل تدفع سيناريوهات سوداوية من هذا النوع طهران لتبنّي خيار الواقعية والبراغماتية المعهودة وتذهب وراء الانحناء أمام العاصفة الرعدية الأميركية الإسرائيلية لتجنّب ارتداداتها؟

تبحث الإدارة الأميركية عن مسرّب الوثائق السرّية التي كانت بحوزتها حول المخطّط الإسرائيلي المزعوم للردّ على إيران بعد مهاجمتها لإسرائيل في مطلع تشرين الأول المنصرم. بينما تل أبيب قد تعدّل خططها وأهدافها ومراكز الاستهداف والتوقيت بعد تسريب هذه الوثائق، لكنّ قناعة الكثيرين هي أنّها خدمة أميركية قدّمت لطهران لدفعها نحو المزيد من التعاون والانفتاح على ما تقوله وتريده واشنطن.

يبدو أنّ القيادة الإيرانية تسلّمت الرسالة وقرّرت التعامل معها بجدّية وليونة. أبرز المؤشّرات إلى ذلك هو التحوّل الحاصل في سياسة طهران اتجاه فلسطين وإعلان وزير الخارجية الإيراني عباس عراقتشي من القاهرة عن رؤية إيران الجديدة لحلّ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بعيداً عن عروض حلّ الدولتين التي لن تؤدّي إلى إرساء سلام مستدام في المنطقة، وأنّ الحلّ الوحيد هو حلّ الدولة الواحدة التي يتعايش فيها جميع السكّان الأصليين، مسلمين ومسيحيين، جنباً إلى جنب مع اليهود. وعلى أساس استفتاء هؤلاء السكّان الأصليين يجري تقرير مصيرهم ومستقبلهم عبر صناديق ديمقراطية.

أهداف نتنياهو واحتمالات إيران

منح استهداف منزل بنيامين نتنياهو في قيساريا الساحلية الجانب الإسرائيلي المزيد من الفرص والذرائع لتوسيع رقعة عملياته ضدّ إيران وتحرّكه بأكثر من اتجاه، وهذا ما تبحث القيادة الإيرانية في تفاصيله اليوم :

–  استهداف المواقع الاستراتيجية للطاقة النووية الإيرانية.

–  مهاجمة مراكز القيادة السياسية والدينية.

–  الدخول في حرب استنزاف إقليمية طويلة الأمد مع طهران عبر التوغّل الجغرافي في العمق الإيراني من خلال دول الجوار لإيران. والمعنيّ هنا قد يكون أذربيجان وتركمانستان. وقد يصل الأمر إلى الاستفادة من أراضي أفغانستان وباكستان أيضاً.

–  هدف واشنطن وتل أبيب هو أبعد من تغيير النظام في إيران، وقد يعيدنا إلى أجواء السبعينيات في الإقليم، وإلى تفتيت بنية إيران السياسية والعرقية والديمغرافية.

– لعب ورقة أذربيجان والاستفادة من مجاورتها لإيران كفرصة استراتيجية تعوّل عليها تل أبيب عند البحث عن مكان تدخل من خلاله الحرب الواسعة مع طهران.

ألمانيا على الخطّ أيضاً

زيارة المستشار الألماني أولاف شولتز الخاطفة لتركيا كان بين أولوياتها حتماً بحث تطوّرات المشهد الإقليمي، خصوصاً على جبهتي غزة وجنوب لبنان. لكنّ المؤكّد أيضاً هو أنّ شولتز نقل أجواء اجتماع القمّة الرباعية الأخيرة في برلين التي جمعته مع الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر.

سيناريوهات القمّة التركية الألمانية كثيرة ومتنوّعة بعد تجديد القادة الأربعة “إدانتهم للهجوم الإيراني على إسرائيل” الذي وصفوه بـ”التصعيدي”. وأشاروا إلى تنسيق جهودهم من أجل “محاسبة إيران ومنع المزيد من التصعيد”. لكن غير مستبعد أيضاً احتمال أن يكون المستشار الألماني تولّى مهمّة نقل رسائل الرباعي لأنقرة كي يتمّ إبلاغها للجانب الإيراني خلال وجود وزير الخارجية عباس عراقتشي في إسطنبول للمشاركة في قمّة دول جنوب القوقاز.

ما يقلق أنقرة ليس اتّساع رقعة المعارك بين إسرائيل وإيران على الجبهتين اللبنانية والسورية، بل تمدّدها باتجاه العمق الإيراني وما ستحمله معها من سيناريوهات بعيدة المدى تصل إلى إسقاط أنظمة وتغيير خرائط وحدوث تنقّلات ديمغرافية تجري على حساب تركيا ومصالحها في الإقليم.

أين العرب من هذه الخريطة؟

توقيت زيارة الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط تركيا بشقّها الإقليمي يؤكّد حجم الحراك السياسي والدبلوماسي الحاصل. لا تتمسّك العواصم العربية بهدف التقريب بين أنقرة والنظام في دمشق فقط، بل إقناع الأتراك بفوائد الابتعاد التركي عن إيران في الملفّ السوري. لا يبحث الضامن العربي عن فرص الوساطة على خطّ أنقرة-دمشق فقط، بل عن إبعاد الطرفين عن إيران أمام سيناريو الانفجار الإسرائيلي الإيراني.

في هذا السياق، فإنّ توقيت تسريبات تقارير الاستخبارات الأميركية حول مخطّط إسرائيل لاستهداف إيران مهمّ هنا. فأميركا، وليست إسرائيل، هي التي أمام مفترق طرق: إمّا أن تدفع واشنطن حليفتها تل أبيب لوقف القتال والالتزام بقرار التهدئة بعد تجاهلها المجازر التي ارتكبت والدمار الذي تسبّب به نتنياهو على جبهتي غزة ولبنان، وإمّا أن تلتزم هي بقرار نتنياهو مواصلة الحرب وتوسيع رقعتها باتجاه سوريا والعراق في مواجهة إيران وحلفائها والذريعة قد تكون كافية بعد استهداف منزل نتنياهو قبل أيام.

إردوغان وحدود “الميثاق الملليّ التركيّ”

كان لافتاً في هذا الخصوص كلام الرئيس التركي رجب طيب إردوغان قبل أيام حول مساحة تركيا البالغة 782 ألف كلم مربّع. رافقت ذلك إشارته إلى الدائرة الجغرافية الثانية المحيطة بتركيا والواقعة ضمن حدود “الميثاق المللي التركي”. وهي بالتأكيد رسالة ردّ على مخطّطات التوسّع الإسرائيلي باتجاه شمال سوريا، وتحذير من أيّ محاولة للاقتراب من الحدود الجنوبية لتركيا تحت أيّة ذريعة.

من جهة أخرى، برز حديث المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري عن أنّ الحزب يموّل نفسه بشكل جزئي من خلال مصانع في تركيا وسوريا واليمن ولبنان، وهو ما بدا محاولة من إسرائيل لتقديم المشهد على أنّه تنسيق تركي إيراني ضدّها، بهدف إضعاف الموقف التركي الإقليمي المتمسّك بالتصعيد ضدّ تل أبيب في غزة ولبنان وانضمام أنقرة للدول التي تقاضي إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بسبب ما ترتكبه من جرائم ضدّ المدنيين.

“الإقليم” خائف من الحرب

تلتقي مواقف العديد من الدول الفاعلة في الإقليم عند رفض محاولات توسيع رقعة الحرب في المنطقة ونقلها إلى جبهات جديدة. لكنّ تل أبيب وطهران، فيما تعلنان عدم اهتمامهما بفتح جبهات إضافية أو التسبّب بحروب جديدة، لهما حساباتهما الخاصة بهما، التي لا تهتمّ بمعايير وقواعد اللعبة الحسّاسة في الإقليم، مع استعدادهما لنسف كلّ التوازنات وجهود التهدئة عند تعرّض مصالحهما للخطر.

بقدر ما تعاني إيران من الغضب الشعبي الواسع في الإقليم ضدّ سياساتها وممارساتها، تواجه إسرائيل حالة مشابهة منذ سنوات طويلة نتيجة ممارساتها العدوانية على الشعبين الفلسطيني واللبناني. مفتاح التخلّص من هذه المعادلة المفروضة على دول المنطقة هو حراك الداخل الشعبي في البلدين.

نتائج القمّة التركية الروسية بين إردوغان وبوتين ومعرفة إذا ما كان وزير الخارجية الأميركي سيرزو تركيا خلال جولته الشرق الأوسطية الحالية أم لا، ستسهّل لطهران وتل أبيب أيضاً رسم سياساتهما وتحديد خياراتهما في المرحلة المقبلة.

وسط هذه المعمعة رأى وزير الخارجية الإيراني عباس عراقتشي أنّ المنطقة أصبحت بمنزلة برميل بارود، وأنّ احتمالية الحرب في المنطقة “أمر جدّي مع العلم أن لا أحد في المنطقة يريد ذلك باستثناء الكيان الصهيوني”. وردّ وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت: “تل أبيب ستردّ على الهجوم الإيراني والردّ سيكون دقيقاً ومؤلماً ومفاجئاً”.

هنا تدعو أنقرة القيادات الإيرانية إلى عدم السقوط في المصيدة الأميركية – الإسرائيلية. لكنّها تعرف أنّ تل أبيب لن تتخلّى عن حلم مهاجمة المواقع النووية الإيرانية حتى لو دعتها واشنطن إلى عدم الذهاب وراء خيار من هذا النوع.

الاحتمال الأقرب هو أن تردّ تل أبيب على الردّ الإيراني قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية وليس بعدها. حسابات ما بعد إعلان النتائج في واشنطن تختلف عن حسابات ما قبلها، خصوصاً عند تقدّم سيناريو عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.

سمير صالحة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.