“الزّلزال الشّيعيّ”: الفالق في طهران والدمار في لبنان

55

بقلم هشام عليوان

«اساس ميديا»

“طوفان الأقصى”، في غزة، يحرّر سوريا من إيران، في 11 يوماً فقط، وبطريقة صادمة ومؤلمة لمحور المقاومة، وللهلال الشيعي خاصة. فكانت ضربتان قاصمتان: الأولى، سقوط مركز الثقل الجغرافي في محور المقاومة، وهو سوريا، والثانية، خسارة مركز الثقل المعنوي في المحور نفسه، وهو السيّد حسن نصرالله، في 27 أيلول الماضي، أي قبل شهرين تامّين من انطلاق معركة ردع العدوان في ريف حلب.

لكنّ الزلزال الحقيقي هو انكشاف المشروع الإيراني، ليس أهدافه الحقيقية، بل حدود قدراته العسكرية والسياسية. فالحفاظ على الجمهورية الإيرانية هو فوق كلّ اعتبار، وكلّ ما عداه من أشخاص وكيانات ومصالح، خارج إيران، قابل للتفاوض عليه أو التنازل فيه أو التخلّي عنه. فلسطين، شعار. والطريق إليها، ذريعة. والغاية تبرّر كلّ وسيلة.

قتال بالوكالة لا بالأصالة

عندما أعلن العراق وقفاً لإطلاق النار من جانب واحد مع إيران عام 1982، إبّان الاجتياح الإسرائيلي للبنان، رفضت الجمهورية الإسلامية بقيادة الإمام الخميني إيقاف الحرب، وأصرّت على إنهاء ما بدأه صدّام حسين عام 1980. كان صدام قد شنّ الحرب على الجمهورية الوليدة، ممزّقاً اتفاقية الجزائر بين إيران والعراق لعام 1975، التي تنازل فيها صدّام حسين لشاه إيران عن القسم المتنازَع عليه في شطّ العرب، وكان آنذاك يشغل موقع نائب الرئيس.

انتقلت إيران من الدفاع إلى الهجوم، وراحت تضغط بشكل خاصّ على قاطع البصرة. وعندما يُسأل المسؤولون الإيرانيون عن سبب رفضهم وقف الحرب، كانوا يجيبون بجواب أيديولوجي لا سياسي، وهو أنّهم يريدون شقّ الطريق نحو فلسطين. في الوقت نفسه، أرسلت طهران على عجل قوات من الحرس الثوري إلى سوريا، ومنها إلى لبنان، لدعم الشيعة في الجنوب المحتلّ، فتأسّس “الحزب”، وتكوّنت مقاومة لبنانية ضدّ إسرائيل بأيديولوجية مختلفة.

كان مفهوماً في تلك الحقبة، لدى الرأي العامّ المتعاطف معها، بأنّ الجيش الإيراني نفسه أو تشكيلات الحرس الثوري، وقوات التعبئة الشعبية أو “الباسيج”، بصدد شقّ الطريق بالقوّة نحو الجولان ولبنان لقتال إسرائيل وتحرير فلسطين. لكن تبيّن مع مرور السنوات أنّ إيران أعقل من أن تتورّط في صراع مباشر مع الغرب. بل إنّ طهران بعد أكثر من عشرين سنة، في عام 2003، تعاونت مع الولايات المتحدة أيّام جورج بوش الابن، لإسقاط عدوّها اللدود صدّام حسين، بعد تجربة ناجحة من التعاون مع أميركا في أفغانستان.

وجدت الجمهورية الإسلامية أنّ التعامل بعقليّة “البازار”، أو السوق، مع عدوّها الأكبر أكثر فائدة من التصارع معه. وكان “الحزب” في ذلك الحين قد أصبح مشروعها الحقيقي في المنطقة. ولم تكن إيران بحاجة إلى إرسال الجيوش، بل تكتفي بإيفاد المستشارين العسكريين.

بعد عشر سنوات من سقوط صدّام حسين، أسرعت ميليشياتها إلى سوريا لمنع سقوط حليفها بشار ابن حليفها التاريخي حافظ الأسد، وكان ذلك أيضاً تحت نظر “الشيطان الأكبر” ورعايته، أي واشنطن، ورضا “الشيطان الأصغر” وغبطته، أي إسرائيل. وكان التبرير الأيديولوجي الأوّلي هذه المرّة حماية مقام السيّدة زينب، ثمّ حماية سوريا والمنطقة من الإرهاب السنّي المتمثّل بكلّ التنظيمات المسلّحة المعارضة لنظام الأسد، تحت عنوان “داعش”.

لكنّ فلسطين أيضاً لم تكن غائبة، فطريق الإمداد البرّي من طهران إلى لبنان يمرّ حتماً بسوريا، مع أنّ هذا الطريق لم يتوقّف يوماً على الرغم من الوجود العسكري الأميركي بالقرب منه، في سوريا نفسها.

“طريق القدس” أهمّ من القدس

وقفت إيران طوال عقد من الزمان ضدّ أيّ حلّ للأزمة السورية وفق القرار الدولي رقم 2254، الصادر بالإجماع، والذي ينصّ على تنفيذ بيان جنيف عام 2012، الذي يدعو إلى حماية المدنيين، وسنّ دستور جديد، وانتخابات جديدة بإشراف الأمم المتحدة، وحكم انتقالي، على أن تبدأ مفاوضات عملية الانتقال السياسي في عام 2016.

لمّا تهاوى النظام فجأة، إثر هجوم المعارضة على ريف حلب في 27 تشرين الثاني الماضي، سارعت إيران إلى المطالبة بتطبيق القرار نفسه الذي ظلّت ترفضه لسنوات، وكلّ ذلك من أجل بقاء شريان الحياة لطريق القدس. كانت إيران نفسها رفضت العام الماضي المشاركة في حرب التحرير التي بدأها يحيى السنوار ورفاقه في 7 أكتوبر 2023، في قطاع غزة، أي بعد أكثر من عشر سنوات على التدخّل العسكري المباشر في سوريا لحماية الطريق إلى القدس.

المفارقة الأكثر إثارة، في حرب إسناد غزة وتداعياتها، ابتداء من 8 تشرين الأوّل 2023، الاكتفاء بضربات صاروخية محدودة على إسرائيل، في 14 نيسان الماضي، أي بعد أسبوعين على قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، وهو ما أدّى إلى قتل الجنرال في الحرس الثوري محمد رضا زاهدي، وضبّاط آخرين. إسرائيل ردّت على الغارة الإيرانية بعد خمسة أيّام فقط. ولم تكتفِ بذلك، بل اغتالت قائد حماس إسماعيل هنية في طهران في 31 تموز الماضي، وهو استفزاز أكبر بكثير من قصف القنصلية في دمشق.

تردّدت إيران في الردّ على هذا الانتهاك الخطير لهيبتها وسيادتها، فتشجّعت إسرائيل وأقدمت على ما هو أشدّ، فاغتالت الأمين العامّ لـ”الحزب” السيّد حسن نصرالله في 27 أيلول الماضي، في الضاحية الجنوبية لبيروت ومعه الجنرال الإيراني عباس نيلفروشان. عندها فقط، قصفت إيران مرّة ثانية إسرائيل في 1 تشرين الأوّل الماضي، لكن بصواريخ بالستية. ثمّ كان الردّ الإسرائيلي أقوى وأشدّ، في ليل 26 تشرين الأوّل الماضي مستهدفاً منشآت حيوية إيرانية تدخل في صناعة الصواريخ البالستية.

كان منتظراً أن يأتي ردّ إيراني ثالث على الردّ الإسرائيلي الثاني، لكنّ الأحداث الكبرى في سوريا طوت ذكره، فنسيه الناس، وتجاهلته طهران. وأصبحت سوريا بعد فرار الأسد، حديث الساعة لدى القيادة الإيرانية، مع قدر من التأسّف والتحسّر على سقوط الأسد، وأحياناً انتقاده بسبب هروبه من سوريا، بل التحريض على الحكومة الجديدة، وتهديدها بأيّام حالكة.

من سرديّة النّصر إلى حكاية الغضب

أمّا سردية إيران لكلّ ما حدث في سوريا، بعد “الانتصار” في غزة ولبنان، فلخّصها مرشد الثورة، السيّد علي خامنئي، في مطالعة شاملة، عنوانها العامّ، خطّة أميركية صهيونية مشتركة، وأنّ ما جرى من أحداث مهمّة في المنطقة، وهي من أكثر المناطق حساسيّة في العالم، يدعو إلى الاعتبار بالدروس.

الجيش السوري لم يقاتل، ولا يمكن للجيش الإيراني أن يقاتل عنه، مع أنّ التقارير الاستخبارية كانت تتوارد قبل أشهر عن عملية قيد التحضير في الشمال السوري. ووعد خامنئي جازماً بأنّ “المناطق المحتلّة من سوريا ستتحرّر على أيدي الشباب السوريّين الغيارى. لا تشكّوا في أنّ هذا الأمر سيحدث. ستطرد جبهة المقاومة أميركا من المنطقة. يظنّون أنّ جبهة المقاومة باتت ضعيفة مع سقوط الحكومة السوريّة التي كانت تؤيّد المقاومة. يُبدون فرحهم ويقولون إنّ جبهة المقاومة ضَعُفَت. هؤلاء واقعون في خطأ فادح. جبهة المقاومة ليست مجرّد عتاد مادّي لتنكسر أو تنهار أو تزول. المقاومة إيمان، وفكر، وقرارٌ قلبيّ وحاسم. المقاومة مدرسةٌ، وهي مدرسةٌ عقديّة”.

تردّدت في كلمته مفاهيم مفتاحية: مثل “الغفلة”، وهي سبب سقوط النظام الأسديّ. “الارتباك”، الذي حذّر خامنئي من الوقوع فيه بعد الهزيمة. “بثّ الخوف في قلوب الناس”، عن طريق القنوات التلفزيونية والإذاعية والصحف الخارجية التي تكتب باللغة الفارسية، و”إثارة الخوف جريمة، ويجب أن يعاقَب مرتكبها”.

من جملة التعليقات المضطربة التي حفلت بها الصحافة الإيرانية عقب سقوط الأسد، ما كتبه سعدالله زارعي، في صحيفة كيهان العربي، تحت عنوان: الخطأ الاستراتيجي في تحليل الوضع السوري. المقال قراءة تاريخية لمرحلة عمرها 46 سنة من المقاومة.

يعتبر الكاتب أنّ إسرائيل احتلّت جنوب لبنان عام 1982 بعد أسبوعين من تحرير خرمشهر الإيرانية من الجيش العراقي. استغلّت إسرائيل أوضاع الداخل اللبناني لتحتلّ ما يزيد على مساحة خرمشهر عدّة مرّات. والمنطقة التي سقطت بيد إسرائيل، هي غالباً شيعية الهوى، بحسب تعبيره. فكأنّ احتلال جنوب لبنان ردّ على تحرير خرمشهر.

“حشد شعبي” سوري؟

يتناول زارعي موجة الربيع العربي التي أسقطت عدّة أنظمة عربية، ابتداء من أواخر عام 2010، فيربط ما حدث بفشل المشروع الأميركي في أفغانستان والعراق. كانت كلّها ثورات بنظره، إلى أن اقتربت من سوريا. هناك خطّة غربية لقلب مسار هذه الانتفاضات، فأنشأت المجاميع التكفيرية بمسمّيات متعدّدة لتنعكس على الوضع الإقليمي بسرعة. لكنّ هذا المشروع لم يصمد كثيراً، إذ تمّت السيطرة على تلك المجاميع حتى عام 2018، وهو يقصد الدعم الإيراني والروسي، فكان فشل المشروع التكفيري سبباً في تعزيز تيّار المقاومة وجبهة المقاومة.

أخيراً، يبشّر إسرائيل بما هو أخطر من حكومة الأسد، وهو “ليس سوى انبثاق تيار للمقاومة الشعبية في سوريا أشبه بـ”الحزب” أو من نوع الحشد الشعبي في العراق أو أنصار الله في اليمن”.

هشام عليوان

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.