الرّياض لواشنطن: فلسطين أمانتنا على أرضها

5

بقلم محمد قواص

«أساس ميديا»

يعوّل الرئيس الأميركي دونالد ترامب على اتّفاق لتطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل لنيل جائزة نوبل للسلام. يعتبر أنّ سلاماً إسرائيليّاً – سعوديّاً من شأنه فتح الأبواب أمام سلام مع العالمين العربي والإسلامي. ينهل الرجل ممّا تحقّق في ولايته الأولى من اتّفاقات مع 4 دول عربية ليبني في ولايته الحالية ملفّاً يقنع لجنة نوبل بإدخاله التّاريخ.

في 20 كانون الثاني 2025، ولمناسبة تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة، قال دونالد ترامب: “أعتقد أنّ السعوديّة ستنضمّ إلى اتّفاقات إبراهيم (…) قريباً، وليس بعيداً جدّاً”. قبل ذلك في 15 كانون الثاني، قال مايك ويلز، مستشار ترامب للأمن القومي، إنّ مسألة التطبيع بين السعودية وإسرائيل هي “أولوية قصوى” بالنسبة للإدارة الجديدة.

بدا ترامب واثقاً من مسار التطبيع الذي يبشّر به. والأرجح أنّه أراد من خلال إظهار فائض الثقة فرض الأمر وكأنّه تحصيل حاصل لا يحتاج إلّا إلى ترتيبات شكليّة. ظهر وكأنّه لا يعرف، وهو يعرف جيّداً، أنّ الأمر لن يمرّ، ليس فقط بسبب ما تغيّر في هذا العالم منذ اندلاع حرب أوكرانيا عام 2022، وما تغيّر في الشرق الأوسط منذ حرب غزّة عام 2023، بل بسبب ظهور مناعة عالية في العالم العربي، قادتها السعودية بالذات، لتحصين استقلالية قرار عن “لعبة الأمم”، وخصوصاً عن الولايات المتحدة.

كانت المنطقة قاومت خططاً أميركية، في عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، لفرض خيار الإسلام السياسي بديلاً لحكم العواصم بعد اندلاع “ربيع” عام 2011. ورفضت بعد ذلك القبول بـ “عقيدة” أوباما في فرض الاتّفاق النووي مع إيران عام 2015. وفي عهد جو بايدن مارست الرياض شبه قطيعة معه، وهو الذي كان وعد بجعل المملكة دولة “منبوذة” أثناء حملته الانتخابية. فهم بايدن لاحقاً كيف تغيّرت الرياض، واضطرّ عام 2022 إلى زيارة السعودية، وهو يكاد يكون معتذراً، متحرّياً تعاوناً إلى حدّ توسّل اتّفاق استراتيجي بين البلدين. وحين خُيّل إليه أنّه يستطيع أن يمون على السعودية داخل منظّمة “أوبك بلاس” طالباً رفع إنتاج النفط لخفض أسعاره، رفضت الرياض طلبه وأعادته خائباً.

حزمٌ وحسم

يستطيع ترامب أن يتفاخر بغرور ويعلن العزم على ضمّ كندا وشراء جزيرة غرينلاند والسيطرة على قناة بنما. فهم خطأً وعد السعودية باستثمار 600 مليار دولار في الاقتصاد الأميركي، فخُيّل له أن لا ضوابط لطموحاته مع المملكة. ارتكب، في 4 شباط الحالي، خطيئة إعلان خطّة تستولي بموجبها الولايات المتحدة على قطاع غزّة وتهجّر سكّانه. في تلك اللحظة أيضاً، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إنّه واثق بقدرته على التوصّل إلى اتّفاق لتطبيع العلاقات مع السعودية، مشيراً إلى أنّه ملتزم بجعله حقيقة، معتبراً أنّ السلام بين إسرائيل والسعودية ليس ممكناً فحسب، بل سيتمّ تحقيقه.

بعد أقلّ من ساعة على ذلك العبث، أصدرت وزارة الخارجية السعودية في 5 شباط ما بات يُعرف بالتلميح الدبلوماسي بـ “بيان الفجر” لصدوره فجر ذلك اليوم بتوقيت الرياض. تقصّدت الرياض أن لا يطلع نهار آخر على الحليفين المتبخترين في واشنطن من دون أن تضع على حروف حازمة النقاط الحاسمة التالية:

  • تأكيد أنّ موقف المملكة من قيام الدولة الفلسطينية راسخ وثابت لا يتزعزع، وتذكير بأنّ وليّ العهد، الأمير محمّد بن سلمان، أكّد هذا الموقف بشكل واضح وصريح لا يحتمل التأويل بأيّ حال من الأحوال.
  • إعادة تأكيد ما كان الأمير محمّد شدّد عليه من أنّ السعودية لن تقيم علاقات مع إسرائيل دون إقامة دولة فلسطينية، وأنّ موقف الرياض في هذا الصدد ثابت لا يتزعزع وليس محلّ تفاوض أو مزايدات.
  • رفض الرياض القاطع المساس بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، ورفض سياسات الاستيطان الإسرائيلي، أو ضمّ الأراضي الفلسطينية.
  • رفض السعي إلى تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه. وواجب المجتمع الدولي اليوم هو العمل على رفع المعاناة الإنسانية القاسية التي يرزح تحت وطأتها الشعب الفلسطيني “الذي سيظلّ متمسّكاً بأرضه، ولن يتزحزح عنها”.
  • التأكيد أنّ الموقف الثابت ليس محلّ تفاوض أو مزايدات، وأنّ السلام الدائم والعادل لا يمكن تحقيقه دون حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة، وفقاً لقرارات الشرعية الدولية.

أنهى البيان سطوره بالإشارة إلى أنّ ما سبق تمّ إيضاحه للإدارة الأميركية السابقة، لكن أيضاً (وهنا بيت القصيد) تمّ إبلاغه إلى الإدارة الحالية في واشنطن.

رسالة موجعة

وصلت الرسالة. والأرجح أنّها كانت موجعة تطيح بما يعوّل عليه ترامب وما يتطلّع إليه نتنياهو ليحقّقا انتصارهما المأمول. ولئن هرعت قيادات الإدارة في واشنطن إلى تفسير خطّة ترامب والتخفيف من شططها، وبدأ ترامب نفسه استدارة باتّجاه التراجع وتدوير زواياها، فإنّ نتنياهو راح يعبّر عن مزاج واشنطن الغاضب وعن خيبته الشخصية إلى حدّ خروجه عن سقوف اللياقات.

بعد يومين على “بيان الفجر” السعودي، ارتجل نتنياهو، في 7 شباط، مقابلة مع القناة “12” الإسرائيلية القريبة منه. والأرجح أيضاً أنّه اصطنع سؤالاً بشأن موقف الرياض من الدولة الفلسطينية. ردّ بتهكّم الخاسرين أنّ “السعودية لديها مساحات شاسعة وبإمكانها إقامة دولة فلسطينية عليها”. ثمّ راح بعيداً في ارتباكه بالقول إنّ اشتراط السعودية إقامة دولة فلسطينية “ليس بالضرورة مؤشّراً إلى الموقف النهائي لها”.

فجر الأحد أعادت الرياض بعث رسائلها. عاجلت نتنياهو بموقف شاجب رافض لتصريحاته بشأن تهجير الفلسطينيين. أكّدت، في بيان لوزارة الخارجية، أنّ “الشعب الفلسطيني الشقيق صاحب حقّ في أرضه، وليسوا دخلاء عليها أو مهاجرين إليها يمكن طردهم متى شاء الاحتلال الإسرائيلي الغاشم”.

لمن لم يفهم رسائل الفجر السعودية، كتب الأمير تركي الفيصل، الرئيس الأسبق للاستخبارات السعودية وسفير بلاده الأسبق في واشنطن ولندن، في اليوم الثالث من الشهر الحالي، رسالة مفتوحة لترامب يقول فيها إنّه إذا كان من المقرّر نقل السكّان من غزة، “يجب السماح لهم بالعودة إلى منازلهم وبساتين البرتقال والزيتون في حيفا ويافا، وغيرها من المدن والقرى التي فرّوا منها أو طردوا منها بالقوّة من قبل الإسرائيليين”.

ذهب الأمير تركي أبعد من القول. أجرى، في 6 شباط، مقابلة مع قناة CNN الأميركية ظهر فيها معتمراً كوفيّة فلسطينية. وبدا المشهد بحدّ ذاته لا يحتاج إلى كلام، متخماً برسائل صارمة لن تخطئها عيون أميركا.

محمد قواص

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.