الدروس والعبر من ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية

42

بقلم د. ابراهيم العرب

في الذكرى الخمسين للحرب الأهلية اللبنانية، نعود إلى صفحة مظلمة وحاسمة في تاريخ لبنان، صفحة صنعت واقع الأمة ومثلت جرحًا عميقًا لمكونات النسيج الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. وفي هذا المقال الموسع، سنستعرض أهم الجوانب التاريخية والأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لهذا الصدام الدموي، بالإضافة إلى الدروس والعبر التي يمكن استقاؤها من تلك الفترة وكيفية تحويل الذكرى إلى أداة للنهوض والتصالح الوطني.

خلفية تاريخية: شرارة اندلاع الحرب

اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية في 13 نيسان 1975، وكان للحادثة الأولى في عين الرمانة أو مجزرة البوسطة – التي أسفرت عن مقتل 27 فلسطينيًا من المدنيين – دوراً أساسياً في إشعال فتيل النزاع. فقد تم نسب هذا الحادث إلى أطراف لبنانية، مما أدخل لبنان في دوامة من الصراعات الطائفية والسياسية والإقليمية. وتلك الشرارة لم تكتفِ بإحداث أضرار محدودة، بل كانت بداية لرحلة استمرت 15 عامًا من القتال العنيف والتحولات الجذرية في ملامح الدولة اللبنانية.

الجوانب الاجتماعية والسياسية

-التفتت الاجتماعي ونفوذ الطائفية

كانت الحرب الأهلية اللبنانية تعبيرًا عن الانقسامات الطائفية والمنازعات على السلطة والتحكم في الموارد الحيوية. فقد انقسمت بيروت إلى شطرين، شرقية وغربية، مما انعكس على الوحدة الوطنية وأدى إلى تدهور العلاقات بين مختلف مكونات المجتمع. وفي ظل وجود ثقافة طائفية متأصلة منذ التأسيس، أصبح من الصعب فصل الهوية الدينية عن الانتماء الوطني.

وتجسدت هذه المآسي في الصور والذكريات التي تعود باستمرار على مواقع التواصل الاجتماعي، كذكرى لما لا يمكن نسيانها؛ وهذا نداء متكرر للتنبه إلى ضرورة تجاوز الاختلافات وبناء جسور التفاهم بين كافة أطياف المجتمع.

-التدخلات الإقليمية والدولية

لم تكن الحرب مجرد نزاع داخلي، بل امتدت بتبعاتها الإقليمية والدولية، إذ اجتاحت تدخلات خارجية لبنان؛ ففي عام 1982 شهدت البلاد غزو إسرائيل، مما اضطر منظمة التحرير الفلسطينية إلى الانسحاب عقب حصار دام ثلاثة أشهر لعاصمة لبنان. كانت تلك التحركات الإقليمية بمثابة تأكيد أن النزاعات الداخلية يمكن أن تشكل أرضًا خصبة للتدخلات الخارجية، مما زاد من تعقيد المشهد السياسي وأثّر بشكل بالغ على حياة اللبنانيين.

-الاستمرار في الاضطرابات والانقسامات

لم تنتهِ الآثار النفسية والاجتماعية للحرب مع توقيع اتفاق الطائف أو “وثيقة الوفاق الوطني” الذي أنهى 15 عامًا من الحرب. فقد ظلّت آثار الصراع ترافق الحياة اليومية للبنان، سواء في احتكاكات الشارع أو النزاعات السياسية التي تؤجج بدورها موجات من العنف والاشتباكات. وهذا الواقع المستمر يذكرنا دومًا بأن ما تعهده الأجيال السابقة من آلام ومآسي لا يجب أن يكون مرجعًا للخلاف، بل إنما درسًا في ضرورة التعلم من الماضي للحفاظ على الوحدة واستقلالية الدولة.

الأبعاد الاقتصادية والحضارية

-انهيار الاقتصاد وانعدام الأمان المعيشي

قبل اندلاع الحرب، كان لبنان يُعرف باسم “سويسرا الشرق” لما كان يتمتع به من اقتصاد مزدهر وقوة مالية ومركزية مالية تنافس المراكز العالمية. لكن بعد اندلاع الحرب، شهد الاقتصاد اللبناني انهيارًا مدمرًا. فقد انهارت قيمة الليرة اللبنانية، التي كانت في عام 1975 تقريبًا مقابل الدولار الأمريكي عند معدل لا يتجاوز 2.3 ليرة، مما ترك آثارًا بالغة على الحياة الاقتصادية والمعيشية للمواطنين. ونتج عن ذلك خسائر بشرية ومادية كبيرة تركت ندوبًا في النسيج الاجتماعي، وغيرت إلى الأبد وجه البلاد.

-البنية التحتية والتحولات الحضرية

تأثرت البنية التحتية للبلاد بشكل جذري؛ فقد تسببت الاشتباكات المستمرة والقصف في تدمير مباني هامة ومرافق عامة، مما استلزم إعادة البناء بشكل شامل بعد انتهاء الصراع. وشقّت آثار هذا الدمار ملامح المدن اللبنانية، وخاصة العاصمة بيروت التي انقسمت إلى شطرين، مما أثر على التخطيط الحضري والنمو الاقتصادي، وأدى إلى استنزاف الموارد التي كان من الممكن توجيهها نحو التنمية والتقدم.

الدروس والعبر من الحرب

-“تنذكر وما تنعاد”: دعوة للتوعية والتصالح

عبارة “تنذكر وما تنعاد” تحمل في طياتها رسالة تحذيرية للأجيال الحالية والقادمة؛ إذ تُذكر بأن الأحداث المأساوية ليست مجرد صفحات من التاريخ، بل هي دروس مؤلمة ينبغي استلهامها لبناء مستقبل أفضل. والتذكير الدوري بهذه الحقبة يهدف إلى نشر ثقافة التآلف والوحدة الوطنية، وتعزيز الحوار بين مختلف مكونات المجتمع، بعيدًا عن الانقسامات الطائفية التي أثقلت كاهل البلاد طيلة عقود.

-أهمية حفظ الذاكرة التاريخية

يتطلب إحياء الذكرى الخمسين للحرب الأهلية اللبنانية ليس فقط تذكر الضحايا والجرحى والمفقودين، بل دراسة الأسباب التي أدت إلى تلك المأساة وكيفية تفادي تكرارها. في ظل المأزق السياسي والاقتصادي الراهن، حيث يعيش لبنان تحت وطأة أزمة مالية تاريخية، يصبح من الضروري التركيز على المصالحة الوطنية وتجاوز الانقسامات الطائفية من خلال:

تعزيز الحوار الوطني: حيث يتوجب تشكيل منصات حوارية يشارك فيها مختلف الأطياف السياسية والثقافية والاجتماعية لمواجهة التحديات المشتركة وتخطي الخلافات.

إصلاح المؤسسات:ضرورة إعادة هيكلة المؤسسات السياسية والإدارية بما يتناسب مع حقبة ما بعد الحرب وبما يضمن توزيعًا عادلًا للسلطة والموارد.

التركيز على التنمية الاقتصادية: يتعين على السياسات الوطنية أن تضع التنمية الاقتصادية وتحسين مستوى المعيشة للمواطنين على رأس أولوياتها، من أجل بناء دولة قوية قادرة على مواجهة التحديات المستقبلية.

الحفاظ على الذاكرة الجماعية: يجب أن تبقى أحداث الحرب حاضرة في الذاكرة الجماعية كدرس قاسٍ يُلهم المشاعر الوطنية ويحفّز على العمل من أجل الوحدة والعدالة الاجتماعية.

التحديات الراهنة والمستقبل

يمر لبنان اليوم بمرحلةٍ من أصعب المراحل في تاريخه؛ إذ تواجه الدولة أزمة مالية وسياسية شاملة قد تؤدي إلى انفصال داخلي أو حتى إلى التحول نحو نظام فيدرالي، في حال عدم التوصل إلى حلول جذرية وشاملة. حيث تواجه البلاد تحديات كبيرة تشمل إعادة الثقة في الحكومات والمؤسسات، وبناء رؤى تنموية تُوحّد الشعب، وتستعيد مكانته في العالم العربي والإقليمي. ومن هنا تظهر أهمية استحضار ذكريات الماضي ليس بهدف الشعور بالحنين وإنما للتعلم من أخطائه وتوجيه الطاقة الوطنية نحو مستقبل يسوده السلام والاستقرار.

دعوة إلى الوحدة والنهضة

إن إحياء الذكرى الخمسين للحرب الأهلية اللبنانية ليس مجرد احتفال رمزي، بل هو نداء صادق للتأكيد على أن التاريخ لن يعود للخلف، وإذا ما تعلّمنا من مآسيه، سنكون قادرين على تجنبه في المستقبل. ذلك أن لبنان، الذي يحمل إرثاً غنيًا وثقافة عريقة، يستحق أن يكون دولة متماسكة قادرة على تجاوز الانقسامات وبناء اقتصاد قوي يضمن حياة كريمة لمواطنيه.

وفي زمن يسوده الاضطراب السياسي والاقتصادي، تظل الرسالة الأهم تكرار عبارة “تنذكر وما تنعاد” لتصبح نبراسًا يضيء درب الوحدة والمصالحة الوطنية، وتعيد للعلاقات الاجتماعية أواصرها المتآكلة، مؤكدين بذلك على أن مستقبل لبنان المشترك يرتكز على الحوار والإصلاح الحقيقيين.

فليكن هذا العام علامة فارقة في رحلة لبنان نحو النهوض والازدهار، فدروس الماضي هي بوابة الوصول إلى مستقبل مشرق لا يعرف الانقسام، بل يسعى فيه الجميع لتحقيق الوحدة والعدالة والرخاء.

حمى الله لبنان واللبنانيين من كل سوء، وأسأل الله أن يجعل من هذه الذكرى فرصة لبداية جديدة مليئة بالأمل والتعافي والإصلاح.

د. ابراهيم العرب

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.