الحوار الوطنيّ في سوريا: “حكمة” العجلة وأحكامها

1

بقلم محمد قواص

«أساس ميديا»

بعد 11 أسبوعاً، فقط لا غير، على سقوط نظام بشّار الأسد في 8 كانون الأوّل الماضي، اجتمع 600 من الشخصيات السورية في دمشق تحت سقف “مؤتمر الحوار الوطني” (25 شباط) لبدء مسار طويل لبناء الدولة في البلاد. لأوّل مرّة منذ 60 عاماً يتحاور السوريون، ينتقدون، يرفضون، يعترضون، فيما منابر أخرى، لا سيما من المعروفين بمعارضتها للنظام السابق، تتشكّك في شكل المؤتمر، و”انتقائية” المدعوّين، وتعجُّل موعد انعقاده. كلّ ذلك جرى تحت سقف حرّية كاملة، تكاد تكون مفرطة، يصلّي السوريون للحفاظ على واقعها.

 لا أحد يعرف سرّ “سلق” مؤتمر الحوار السوري، وما وراء العجالة في عقده. لا يهمّ. كان الرئيس السوري أحمد الشرع قد تحدّث عن عملية سياسية طويلة قد تستغرق 3 سنوات لبناء دستور جديد و4 سنوات لإجراء الانتخابات. أعلن خارطة طريق يوم تعيينه رئيساً للبلاد في المرحلة الانتقالية. أنجز تشكيل لجنة تحضيرية للمؤتمر، وأنجز انعقاد المؤتمر، ومن المتوقّع إصدار إعلان دستوري، وتشكيل حكومة موسّعة ممثّلة لكلّ أطياف المجتمع السوري، وتشكيل مجلس برلماني مؤقّت. ووراء كلّ ذلك استحقاقات مقبلة تبدو واعدة لسوريا.

قال المؤتمرون إنّ التجربة مثيرة للاهتمام على الرغم من كثير من التحفّظات. تحدّثوا عن نقاشات احتدمت مع “الطرف الآخر” الذي كان “حاضراً” يحمل توجّساته. وقال غيرهم إنّه مؤتمر شكليّ لا يمنح الحكم الجديد شرعية كاملة، ولا يجيب على أسئلة العالم والسوريين: من يحكم؟ وكيف تُحكم البلاد؟ من يقرّر وجهة الدستور الجديد؟ ولماذا يجري إقصاء البعض فتقتصر الشراكة على شرائح دون أخرى؟ ولماذا رفض الجماعات والأحزاب واستشارة الناس فرادى؟.. الأسئلة الشاكية لا تنتهي، ومع ذلك تكاد سوريا لا تصدّق أنّ لعنة استبداد قد زالت عن سمائها ورحلت عن يوميّاتها.

التّخلّص من الصّفة الانتقاليّة

في التحليل أنّ استحقاقات داخلية – خارجية ضاغطة فرضت عقد المؤتمر “بمن حضر”. أسرّت مصادر مطّلعة أنّ حالة الاستعجال في عقد المؤتمر تعود إلى ضرورة التخلّص من الصفة “الانتقالية” للإدارة الحالية التي لا تساعدها على اتّخاذ القرارات المهمّة على الصعد السياسية والاقتصادية والسياديّة، وغيرها من الاستحقاقات التي ينتظرها المجتمع الدولي، وأنّ هناك حاجة إلى عقد المؤتمر حتى يتمّ إصدار إعلان دستوري للدولة الجديدة، والكشف عن التشكيلة الوزارية الجديدة المفترض أن تكون من التكنوقراط.

لكنّ الرواية الرسمية التي خرجت عن اللجنة التحضيرية (التي أيضاً تعرّض تشكيلها لانتقادات) روّجت لضرورة الإسراع في إنتاج مخرجات تصدر عن الحوار الوطني لتكون ضمن برنامج عمل الحكومة الجديدة. فيما قالت بعض المرجعيّات القريبة من صناعة القرار إنّه يتوقّع أن تكون الحكومة الجديدة غير منسجمة تضمّ توجّهات وخلفيّات متعدّدة، وإنّ من الأجدى أن يوضع برنامج عمل حكومي يعتمد على توصيات المؤتمر قبل إعلان تشكيلة الحكومة العتيدة. قال المتحدّث باسم اللجنة التحضيرية حسن الدغيم: “توصيات الحوار الوطني لن تكون نصائح وشكليّات وحسب، بل سيتمّ البناء عليها من أجل الإعلان الدستوري والهويّة الاقتصادية وخطّة إصلاح المؤسّسات”.

وضع بيان المؤتمر، الذي بدا أنّه أُعدَّ مسبقاً وتمّ تحديثه ليلاقي ورش الحوار، العلامات الأولى للجمهورية الجديدة. في بعض النقاط بديهيّات لم تهتدِ إليها سوريا منذ أكثر من نصف قرن. اتّفق المؤتمرون على وحدة البلد في مواسم تتحدّث عن احتمالات التقسيم. طالبوا بحصر السلاح بيد الدولة وبناء جيش وطني احترافيّ. أدانوا توغّلات إسرائيل في أراضي البلاد. دعوا إلى المضيّ قدماً في خريطة الطريق: إعلان دستوري، مجلس تشريعي، لجنة دستورية لإعداد مسوّدة دستور دائم. أكّدوا احترام حقوق الإنسان، تعزير الحرّيات، تمكين المرأة، ترسيخ مبدأ المواطنة، تحقيق العدالة الانتقالية… إلخ. غابت عن البيان كلمة “ديمقراطية”، وهو ما فتح أيضاً نقاشاً آخر سيستمرّ طويلاً.

دوافع العجلة

من يراقب المشهد الدولي والإقليمي العامّ يسهُل عليه استنتاج “بركة” تواكب التحوّلات السورية وتدفع بها لتكون نهائية لا رجعة عنها. بموازاة عقد المؤتمر قرّر الاتّحاد الأوروبي في 24 شباط، تعليق مجموعة من العقوبات ضدّ سوريا، بما في ذلك تلك المتعلّقة بالطاقة والنقل والمعاملات اللازمة للأغراض الإنسانية وإعادة الإعمار. وفي اليوم التالي لانتهاء المؤتمر انطلق الشرع، من جديد، صوب العواصم بدأها في السعودية ثمّ عمان، لتحطّ به الرحال في القاهرة لحضور القمّة العربية في 4 آذار. تتحدّث باريس عن رحلة قريبة للرئيس السوري صوب فرنسا، وتروّج همهمة بشأن “حدث سوري كبير” في الزيارة التي سيقوم بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسعودية، وربّما هنا بالذات قد يكمن أحد دوافع العجلة لعقد المؤتمر.

في كلمته أمام المؤتمر، وضع الرئيس الشرع عناوين فيها وصايا للداخل ورسائل للخارج. اختصر اللحظة التاريخية الكبرى. قال إنّ “سوريا عادت إلى أهلها بعدما سُرقت على حين غفلة”. أعلن أنّ سوريا لا تقبل القسمة، وأنّ وحدة السلاح واحتكاره في يد الدولة ليسا رفاهية، بل واجب وفرض. أكّد ضرورة بناء سوريا على أساس دولة القانون واحترام السلم الأهلي. وفي الوصايا قال الشرع: “ينبغي ألّا نستورد أنظمة لا تتلاءم وحال البلد، ولا أن نحوّل المجتمعات إلى حقول تجارب لتنفيذ أحلام سياسية”.

لم تغِب مشاكل المكوّنات في الشرق والساحل والجنوب عن مناخات النقاش. لكنّ عقد المؤتمر، في هذا التوقيت وبهذه العجالة ولإصدار ما صدر من مخرجات، لم يكن إلّا ليستجيب لدينامية عربية إقليمية دولية. العالم متطلّب، يستدرج سوريا صوب الدفع بالمراحل نحو واجهة تخلّصها من العقوبات وتؤهّلها لتكون عضواً فاعلاً كامل الأهليّة داخل مشهد الشرق الأوسط المتحوّل. أمر تنبّهت له إسرائيل بقلق ويفسّر اندفاعها “السوقيّ” لتكون داخل الغرف التي تدفع الشرع وفريقه إلى إخراج سوريا من زمن وحملها إلى زمن تتحدّث فيه لغة العالم وتندمج في تحوّلاته.

محمد قواص

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.