الحشد اللبناني في مأتم “الولائيّة”

2

بقلم عبادة اللدن

«اساس ميديا»

يتلهّى العامّة بنقاش لا معنى له في عدد المحتشدين في تشييع الأمينَين العامَّين لـ”الحزب”. فالثابت أنّ السواد الأعظم من الطائفة الشيعية يستغرقه شعور الفقد والحزن، وكلّ نقاشٍ بعد ذلك في الأرقام يحيل إلى سباق الديمغرافيا، لا أكثر ولا أقلّ، وهو خارج الموضوع هنا.

على أنّ النقاش الأهمّ هو في فهم شيعة لبنان لهذا الفقدان المحوريّ في تاريخ جماعتهم وما سيقود إليه من تطوّر في فهمهم لوجودهم السياسي. لم يتغيّر “الحزب” بالضرورة حين اغتيل أمينه العامّ، لكنّ في بيئته أسئلة وحيرة قد تحيل إلى تشكّل وعي جديد لهويّة الجماعة في إطار الفكرة اللبنانية، ولو مع بقاء الإطار الديني “الولائيّ” حاكماً للحزب الأكبر في الطائفة.

أخذ “الحزب” الطائفة، على مدى أربعة عقود، إلى إطار سياسي ديني أمميّ عابر للحدود عماده الولاء العابر للحدود للحكومة الإسلامية بقيادة “الوليّ الفقيه”. وتجسّد ذلك في ارتباط عسكري وتمويليّ مباشر جاهر به الأمين العامّ الراحل، وفي نظام “التكليف الشرعي” الذي لا ينفكّ فيه السياسي عن الديني.

كانت تلك فكرة تطوّرت في الفكر السياسي الشيعي خلال وجود روح الله الخميني في النجف، من أواسط الستّينيّات حتى أواخر السبعينيّات، وتبلورت نصّاً مكتوباً في كتاب “الحكومة الإسلامية” عام 1970. ناظرت تلك الفكرة في الفلك السنّي النظريّات الجهادية وتنظيمات البيعة للأمير أو المرشد، بما يتجاوز اعتبار المواطنيّة في إطار الدولة الحديثة. كان الفكر الديني الشيعي قبل ذلك ينأى عن فقه الحكم، وينحاز إلى دور محدود للفقهاء في السياسة ما دام الإمام المعصوم (المهديّ) في غيبته الكبرى. غير أنّ الظروف السياسية في العراق والمحيط العربي ما كانت تتيح لرجال الدين الشيعة النأي بأنفسهم أكثر. فالشباب الذين كانوا يتحلّقون حول المرجع الأعلى السيّد محسن الحكيم (توفّي عام 1970) كان يتنازعه صراع فكري وسياسي وأمنيّ بين أنصار الملكيّة والبعثيّين والقوميّين والشيوعيّين. وكان السيّد الحكيم قلقاً في البداية من تغلغل الشيوعية في أوساط الشباب الشيعي في النجف، فكان أوّل انخراط مباشر له في السياسة بتحريم الشيوعية واعتبارها كفراً وإلحاداً. وقد استغلّت الملكيّة بداية هذه الفتوى، ثمّ استغلّها البعثيون بعد ذلك للتنكيل بالشيوعيّين.

غير أنّ المؤسّس الأوّل للإسلام السياسي الشيعي ليس إلّا السيّد محمد باقر الصدر، منظّر “حزب الدعوة الإسلامي” وكاتب دستوره عام 1958. وقد كان شابّاً لم يبلغ الثلاثين حين قدم الخميني إلى العراق أواسط الستّينيات. يشترك الرجلان في تصوّر دور مباشر للفقيه في السياسة، وكلاهما تأثّر بتنظيرات “الإخوان المسلمين” في مصر. فقد أخذ الخميني مبدأ الحاكميّة لله، “فحكومة الإسلام حكومة القانون، والحاكم هو الله وحده لا سواه”. وأخذ الصدر مبدأ الشورى. غير أنّ الخميني جسّد الحاكمية في الولاء للإمام المعصوم، ثمّ لمن ينوب عنه في غيبته، وهو الوليّ الفقيه، مشترطاً فيه شرطين: العلم بالقانون الإسلامي والعدالة. أمّا الصدر فتقوم نظريّته السياسية على “خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء”، ومؤدّاها أنّ الخلافة للأمّة عبر الشورى والمجالس التمثيليّة، فيما يتولّى الفقيه دور “الشهادة” والرقابة على الأمّة.

الصّمت الإيرانيّ

من اللافت أنّ الشيخ نعيم قاسم لم يفوّت أيّ خطاب له، منذ تسلّمه منصب الأمين العامّ لـ”الحزب”، من دون أن يذكر “الولائية” أو “الولاء”، على نحوٍ لم يكن يرد بهذا الإصرار في خطابات سلفه، ربّما لأنّ اللحظة لم تكن تستدعي ذلك من قبل، أو ربّما لأنّ قاسم من العقائديّين الأوائل الذين تشرّبوا هذا الفكر وأخلصوا له، وهو حريص على تثبيته في هذه اللحظة الانتقالية بين مرحلتين.

يؤكّد ذلك أنّ “الحزب” لن يتغيّر من حيث التأسيس الفكري، ولو اتّسع الهامش له للتعاطي مع الوقائع السياسية المستجدّة في لبنان بعد الانتكاسة العسكرية الأخيرة، واضطراره إلى تسليم مواقعه وسلاحه إلى الجيش اللبناني، على الأقلّ في جنوب الليطاني.

لكنّ شيئاً ما تغيّر في وعي الجماعة الشيعية لوجودها السياسي. كان اغتيال نصرالله خارج المُتخيّل في ذلك الوعي، إذ كان الاعتقاد الضمنيّ أنّه الرجل الثاني بعد المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية السيّد علي خامنئي، وأنّه خطّ أحمر لما يسمّى “المحور”، وأنّ المسّ به يشعل الحرب في الإقليم بلا أدنى شكّ.

أيقظ الصمت الإيراني بعد الاغتيال الوعي لأنّ المصالح الوطنية الإيرانية هي منظومة مستقلّة في تعريفها وتحديدها عن المصالح “الوطنية” للجماعة الشيعية في لبنان، مهما يكن الرابط العقائدي الولائيّ. وبهذا المعنى، كان الحشد في التشييع، إلى حدٍّ واضحٍ قابل للتمييز، حشداً لبنانيّاً من حيث الوعي لاستقلالية منظومة المصالح الوطنية للجماعة الشيعية، لا حشداً “ولائيّاً” للمحور العابر للحدود.

يتجلّى هذا الإيقاظ في المستوى الشعبي على شكل نقاش مبسّط في الشارع في ما إذا كانت إيران “باعتنا”. وهو نقاش حاضرٌ وجدّيّ إلى الحدّ الذي يستدعي محاججة من المتحدّثين الناطقين بلسان حال “الحزب” في الإعلام. والجدير بالملاحظة أنّ هؤلاء يقدّمون نظريّة عن إخلاص إيران في مساندتها لـ”الحزب”، ولا يدافعون من منظار منظومة “الولاء”، كنظرية دينية حاكمة يسقط أمامها أيّ اجتهاد سياسي.

نسخة وطنيّة

يترافق هذا الإيقاظ مع مخاضٍ يمرّ به “الحزب” للتأسيس لمرحلة جديدة يتخلّى فيها عن الأدوار العسكرية والسياسية خارج الحدود، وينكفئ إلى تجربة لبنانية ستكون الأولوية فيها لإعادة صياغة دوره في الحياة السياسية ومؤسّسات الدولة من دون أن يكون السلاح أساس هذا الدور، على مستوى الفكرة والممارسة.

يتيح الظرف لـ”الولائيّة” أن تطوّر نسخة لبنانية في إطار الهويّة الوطنية، كما تطوّرت بعض أوجه الإسلام السياسي السنّي، من جهاديّة أمميّة على طريقة أسامة بن لادن وعبدالله عزّام، إلى “جهادية وطنيّة”، تتمثّل في النسخة الراهنة من “طالبان”، والنسخة السابقة من “هيئة تحرير الشام”، ثمّ تأخذ الشكل الوطني المدني، كما يبدو من خطاب الرئيس السوري أحمد الشرع.

غير أنّ مخاض الولائية اللبنانية عسير. فهو رهنٌ بتحوّلات شاقّة في إيران، حيث يدور أيضاً نقاشٌ جدّي وعميق في حدود الولائية الأممية وتصدير الثورة والتدخّل في شؤون الدول الوطنية. وتكفي قراءة مقالة نائب الرئيس محمد جواد ظريف في “ذا إيكونوميست”، التي نظّر فيها لإنشاء منظومة إقليمية تحمل اسم “مودة”، لمعرفة مدى جدّية هذا النقاش.

ليس المعترك السياسي المحلّي أقلّ ضراوة، في ظلّ تحدّي إعادة الإعمار، والأسئلة عمّن يموّله ومن يديره، علاوة على مخاض الهويّات السياسية الطائفية الأخرى. ولذلك مآل هذا المخاض يعد بشيء، لكنّه عصيٌّ على التنبّؤ.

عبادة اللدن

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.