الحرب في أوكرانيا وأصداؤها عبر مختلف مناطق العالم

ارتفاع أسعار السلع الأولية وتآكل قيمة الدخول

15

إذا نظرنا إلى ما هو أبعد من المعاناة والأزمة الإنسانية الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا، لوجدنا أن الاقتصاد العالمي بأكمله سيشعر بآثار تباطؤ النمو وزيادة سرعة التضخم.

وسوف تتدفق هذه الآثار من خلال ثلاث قنوات رئيسية. أولا، ارتفاع أسعار السلع الأولية كالغذاء والطاقة سيدفع التضخم نحو مزيد من الارتفاع، مما يؤدي بدوره إلى تآكل قيمة الدخول وإضعاف الطلب. وثانيا، الاقتصادات المجاورة بصفة خاصة سوف تصارع الانقطاعات في التجارة وسلاسل الإمداد وتحويلات العاملين في الخارج كما ستشهد طفرة تاريخية في تدفقات اللاجئين. وثالثا، تراجع ثقة مجتمع الأعمال وزيادة شعور المستثمرين بعدم اليقين سيفضيان إلى إضعاف أسعار الأصول، وتشديد الأوضاع المالية، وربما الحفز على خروج التدفقات الرأسمالية من الأسواق الصاعدة.

وبما أن روسيا وأوكرانيا من أكبر البلدان المنتجة للسلع الأولية، فقد أدت انقطاعات سلاسل الإمداد إلى ارتفاع الأسعار العالمية بصورة حادة، ولا سيما أسعار النفط والغاز الطبيعي. وشهدت تكاليف الغذاء قفزة في ظل المستوى التاريخي الذي بلغه سعر القمح، حيث تسهم كل من أوكرانيا وروسيا بنسبة 30% من صادرات القمح العالمية.

 

وإذا نظرنا إلى ما هو أبعد من التداعيات العالمية، لوجدنا أن البلدان التي ستشعر بمزيد من الضغوط هي تلك التي لديها علاقات تجارية وسياحية وانكشافات مالية مباشرة. أما الاقتصادات التي تعتمد على الواردات النفطية فسوف تسجل معدلات عجز أعلى في المالية العامة والتجارة وتشهد ضغوطا تضخمية أكبر، وإن كان ارتفاع الأسعار قد يعود بالنفع على بعض البلدان المصدرة للنفط مثل البلدان في الشرق الأوسط وإفريقيا.

ومن شأن زيادة حدة ارتفاع أسعار الغذاء والوقود أن تدفع إلى مخاطر أكبر من حدوث قلاقل في بعض المناطق، من إفريقيا جنوب الصحراء وأمريكا اللاتينية إلى القوقاز وآسيا الوسطى، بينما من المرجح زيادة انعدام الأمن الغذائي في بعض أنحاء إفريقيا والشرق الأوسط.

وبرغم صعوبة قياس مدى تردد هذه الاصداء، فإننا نرى بالفعل أن هناك احتمالات بتخفيض تنبؤاتنا للنمو الشهر القادم عندما نقدم صورة أوضح في تقريرنا عن “آفاق الاقتصاد العالمي” وفي تقييماتنا الإقليمية.

وعلى المدى الأطول، قد تفضي الحرب إلى تبديل النظام الاقتصادي والجغرافي–السياسي العالمي من أساسه إذا حدث تحول في تجارة الطاقة، وأُعيدت تهيئة سلاسل الإمداد، وتجزأت شبكات المدفوعات، وأعادت البلدان التفكير في حيازاتها من عملات الاحتياطي. أما زيادة حدة التوترات الجغرافية–السياسية فهي تهدد بمزيد من مخاطر التجزؤ الاقتصادي ولا سيما على مستوى التجارة والتكنولوجيا.

أوروبا

إن الخسائر التي تتكبدها أوكرانيا فادحة بالفعل. ومن شأن العقوبات غير المسبوقة على روسيا أن تضعف أنشطة الوساطة المالية والتجارة، مما سيفضي حتما إلى حدوث ركود عميق هناك. وانخفاض سعر صرف الروبل يذكي التضخم، ويفضي إلى مزيد من تراجع مستويات معيشة السكان.

وتمثل الطاقة القناة الرئيسية لانتقال التداعيات في أوروبا حيث تشكل روسيا مصدرا أساسيا لوارداتها من الغاز الطبيعي. وقد يترتب على ذلك أيضا حدوث انقطاعات أوسع نطاقا في سلاسل الإمداد. وستسفر هذه الآثار عن ارتفاع التضخم وإبطاء التعافي من الجائحة. وسوف تشهد أوروبا الشرقية ارتفاعا في تكاليف التمويل وطفرة في تدفق اللاجئين، حيث استوعبت معظم اللاجئين البالغ عددهم 3 ملايين نسمة الذين فروا من أوكرانيا مؤخرا، حسب ما أوضحته بيانات الأمم المتحدة.

وقد تواجه الحكومات الأوروبية كذلك ضغوطا على المالية العامة من زيادة الإنفاق على تأمين مصادر الطاقة وميزانيات الدفاع.

وبينما تُعد الانكشافات الخارجية للأصول الروسية الآخذة في الهبوط محدودة بالمعايير العالمية، فإن الضغوط على الأسواق الصاعدة قد تزداد إذا سعى المستثمرون إلى البحث عن ملاذات أكثر أمانا. وبالمثل، تتسم الانكشافات المباشرة في معظم البنوك الأوروبية لروسيا بأنها محدودة ويمكن التعامل معها.

القوقاز وآسيا الوسطى

إذا نظرنا إلى خارج أوروبا، سنجد أن هذه البلدان المجاورة ستشعر بتبعات أكبر من الركود في روسيا والعقوبات المفروضة عليها. فالروابط الوثيقة معها على مستوى التجارة ومن خلال نظم المدفوعات سوف تكبح التجارة وتحد من تحويلات العاملين في الخارج والاستثمار والسياحة، مما يضر بالنمو الاقتصادي ويؤثر سلبا على التضخم والحسابات الخارجية وحسابات المالية العامة.

وبينما من المتوقع أن يعود ارتفاع الأسعار الدولية بالنفع على البلدان المصدرة للسلع الأولية، تواجه هذه البلدان مخاطر من انخفاض صادرات الطاقة إذا امتدت العقوبات وطُبِّقَت على خطوط الأنابيب التي تمر عبر روسيا.

اﻟﺸﺮق الأوسط وﺷﻤﺎل إﻓﺮﻳﻘﻴﺎ

يُرجح أن تواجه المنطقة آثارا متوالية فادحة من ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة وضيق الأوضاع المالية العالمية. ففي مصر، على سبيل المثال، تأتي 80% من وارداتها من القمح من روسيا وأوكرانيا، كما أنها مقصد سياحي يحظى بإقبال كبير من كلا البلدين، وسوف تشهد كذلك انكماشا في نفقات زائريها.

ومن شأن السياسات الرامية إلى احتواء التضخم، كزيادة الدعم الحكومي، أن تفرض ضغوطا على حسابات المالية العامة الضعيفة بالفعل. وإضافة إلى ذلك، فإن تفاقم الأوضاع المالية الخارجية قد يحفز تدفق رؤوس الأموال إلى الخارج ويضيف إلى التأثيرات المعاكسة على النمو في البلدان ذات مستويات الدين المرتفعة والاحتياجات التمويلية الكبيرة.

وربما أدت الأسعار الآخذة في الارتفاع إلى زيادة التوترات الاجتماعية في بعض البلدان، كتلك التي لديها شبكات أمان اجتماعي ضعيفة، وفرص عمل قليلة، وحيز محدود للإنفاق من المالية العامة، وحكومات تفتقر إلى الشعبية.

إفريقيا جنوب الصحراء

بينما كانت القارة تتعافي تدريجيا من الجائحة، جاءت الأزمة لتهدد ذلك التقدم الذي حققته. وكثير من بلدان المنطقة معرض لدرجة كبيرة من المخاطر من آثار الحرب، وذلك تحديدا بسبب ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء وتراجع السياحة والصعوبة المحتملة في الوصول إلى أسواق رأس المال الدولية.

ويأتي هذا الصراع في وقت تشهد فيه معظم بلدان المنطقة تضاؤلا في الحيز المالي المتاح لمواجهة آثار الصدمة. ويُرجح أن يفضي هذا الأمر إلى اشتداد الضغوط الاجتماعية– الاقتصادية، والتعرض لمخاطر الديون العامة، وحدوث ندوب من الجائحة التي كانت ملايين الأسر والشركات تعاني منها بالفعل.

ويثير ارتفاع أسعار القمح إلى مستويات قياسية المخاوف بشكل كبير في منطقة تستورد نحو 85% من إمداداتها من هذه السلعة، والتي يأتي ثلثها إما من روسيا أو أوكرانيا.

هذا وتمثل أسعار الغذاء والطاقة القنوات الرئيسية لانتقال التداعيات، والتي ستكون جسيمة في بعض الحالات. ومن المرجح أن يؤدي ارتفاع أسعار السلع الأولية إلى تعجيل وتيرة التضخم في أميركا اللاتينية والكاريبي، وهي المنطقة التي تسجل بالفعل معدلا سنويا يبلغ في المتوسط 8% على مستوى خمسة من أكبر اقتصاداتها وهي: البرازيل والمكسيك وشيلي وكولومبيا وبيرو. وقد يتعين على بنوكها المركزية مواصلة الدفاع عن مصداقيتها في مكافحة التضخم.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.