الأردن و”الإخوان”: من “مساكنة المصلحة” إلى “طلاق الضّرورة”

9

بقلم أمين قمورية

«أساس ميديا»

حسمت الدولة الأردنية إشكاليّة علاقتها التاريخية مع “إخوانها المسلمين”. بعد 80 عاماً من الاحتواء والصدام، قرّرت عمّان وضع “الجماعة” تحت طائلة الحلّ والحظر، وجعلتها “غير مشروعة”، لكنّها تركت حائراً معلّقاً ذراعها السياسي “حزب جبهة العمل الإسلامي” الممثّل في البرلمان بعشرات النوّاب.

لا تشبه العلاقة بين المملكة و”الإخوان” نظيراتها بين أيّ دولة عربية أخرى و”الجماعة”. فهي لم تكن يوماً علاقة ثقة كاملة أو خصومة مطلقة، وظلّت متأرجحة بين الهضم والتضييق، بين التعايش المحكوم بسقوف، والتباعد المعلّق على ضرورات السياسة الداخلية والأمن الإقليمي. لكنّ إعلان ضبط “خليّة الـ 16 الإرهابية”، المرتبطة بحسب السلطات بعناصر “إخوانيّة”، كسر المحظور بين الدولة والجماعة، ورسم حدوداً للّعبة المستمرّة بين الطرفين.

كانت الجماعة، لفترة طويلة، جزءاً مهمّاً من “النظام الأردني” في مواجهة المدّين القومي الناصري واليساري الراديكالي، لكنّ العلاقات الودّية انقلبت عدائيّة مع معارضة الإسلاميين معاهدة وادي عربة للسلام مع إسرائيل عام 1994، وازدادت تدهوراً مع توالي موجات “الربيع العربي” منذ 2011 ، التي أحيت آمال التيّارات الإسلامية بالانفلاش والانتشار السياسي الأوسع. حتّى الجماعة نفسها لم تسلم من التناقضات حيال المسائل المطروحة والعلاقة مع القصر، فحصلت فيها انشقاقات وخلافات بين “حمائم” و”صقور”، أطاحت قادة كباراً، بينهم أمناء عامّون. “الحمائم” البراغماتيّون يرون في الأردن وطناً نهائيّاً وسقفاً أعلى لهم، وأمّا “الصقور” فلا يرون في الأردن سوى ساحة وممرّ، ويوصف هؤلاء بأنّهم “حمساويّو” الهوى، ويصير صوتهم الأكثر ارتفاعاً في الأزمات.

في عام 2020، ثبّتت المحكمة العليا الأردنية قراراً حكوميّاً بحلّ الجماعة رسميّاً لعدم تسجيلها جمعيةً خيريّة، لكنّها سمحت لحزبها السياسي، المسجّل بشكل منفصل باسم جبهة العمل الإسلامي، بمواصلة العمل السياسي والنقابي والترشّح للانتخابات النيابية، على الرغم من الاحتجاجات الصاخبة التي قادتها الجماعة في الشارع تنديداً بالعدوان على غزّة والموقف الرسمي الأردني حياله. وعكست تصريحات بعض “الإخوان” حينها مواقف حركة “حماس”، الأمر الذي أغضب السلطات وأثار ريبة الإسرائيليين والأميركيين وبعض العواصم العربية.

خصوصيّة العلاقة بـ”حماس”

أضفت خصوصية علاقة “صقور” الجماعة بـ”حماس” إشكاليّة أساسية على علاقة الدولة الأردنية بـ “إخوانها”. “حماس” ليست عنصراً دخيلاً في الحياة السياسية الأردنية، ذلك أنّها أُسّست على الأرجح في الأردن عام 1987، حيث كان يقيم بعض قادتها مثل إبراهيم غوشة وخالد مشعل وموسى أبو مرزوق. وعلى الرغم من أزمة الثقة المتدحرجة بين الطرفين، أبقت السلطة على خيوطها الممدودة مع الجماعة وحزب جبهة العمل الإسلامي، ضمن قواعد اللعبة السياسية، وتركتها تخوض الانتخابات النيابية باسم “الجبهة” وتفوز بـ 31 مقعداً في البرلمان، أي الحصّة الكبرى من النوّاب. كانت تأمل نقل الغضب الشعبي من الشارع إلى تحت قبّة البرلمان لضبطه واحتوائه ومنع تفجّره. لكنّ ضبط “خليّة الـ 16” التي أُطلق عليها اسم “خليّة الفوضى”، اعتبرته عمّان مؤشّراً إلى مسار مختلف في لحظة سياسية محلّية وإقليمية مختلفة تماماً عمّا سبق، ذلك أنّ الانتقال من تهريب السلاح إلى تصنيعه هو بالنسبة إليها نقطة تحوُّل وتجاوز للخطّ الأحمر إذا ما جرى التغاضي عنه فسيقود إلى ما هو أخطر، ويعني عدم الإقرار بوجود دولة وعدم الاعتراف بسيادتها.

استعادت الاتّهامات التي وُجّهت إلى “خليّة الـ16” هذا الجانب ذي الحساسيّة الأمنيّة الشديدة في الأردن، وفي المقابل لم تساهم التصريحات التي أدلت بها الجماعة الأردنية في تخفيف هذه الحساسيّة بالحديث عن أنّ المتّهمين تحرّكوا بشكل فردي، وأنّ خططهم لتصنيع صواريخ ومسيّرات هدفها “دعم المقاومة الفلسطينية”.

هكذا جاء القرار المفصليّ للدولة بالقطع مع الجماعة وحظر نشاطها وشلّ قدراتها الماليّة والتنظيمية. لكنّ “الإخوان” بامتداداتهم البرلمانية والنقابية والسياسية والشعبية ليسوا تفصيلاً في الحياة السياسية الأردنية، فهم أهمّ كيان فاعل ومنظم ما دون الدولة، ويملك قدرات تجييشيّة وخبرات متأصّلة، وحسن القدرة على التقاط اللحظات الإقليمية والسياسية المناسبة للفعل.

هل تقتدي عمّان بالنّموذج المغربيّ؟

هل تقتدي عمّان بالمزاج العربي الرسمي السائد في بعض العواصم، وتذهب إلى الحسم الكامل مع الجماعة بكلّ تفرّعاتها، بما في ذلك التضييق على جبهة العمل الإسلامي لإخراجها كمكوّن متكامل من الحياة السياسية، أم تطبّق النموذج المغربي بالفصل بين “حزب الجبهة” والجماعة الأمّ، مثلما فعلت الرباط التي فصلت “حزب العدالة والتنمية” المغربي عن الجماعة وتركته ممثّلاً بـ 32 نائباً في البرلمان ووزير في الحكومة؟

هل تملك الجماعة القدرة على إعادة إنتاج نفسها كحركة وطنية موالية قادرة على ضبط قواعدها؟ أم تطرّف خطابها يحول دون ذلك؟ هل تكتفي السلطة بإبداء الحزم لإعادة هندسة الحياة السياسية والانضباط العامّ، أم تذهب إلى الحسم والإقصاء التامّ؟

لم يُعرف بعد مصير “حزب جبهة العمل الإسلامي”، لكنّ بعض الاجتهادات من داخل صفوف الجماعة تقترح على الحكومة إبقاء الحزب كي يستقطب كوادر “الإخوان” المعتدلين وقواعدهم، وكي يمارس مهمّاته وفقاً للدستور والقانون الأردنيَّين، كما قال أمينه العامّ وائل السقا، الذي أبدى استعداد الحزب للاستجابة لقرار المدّعي العامّ وفتح فروعه ومقرّاته أمام الضابطة العدليّة.

قد يلقى قرار الحلّ تأييداً من فئات في المجتمع الأردني تخشى من طموحات الإسلام السياسي إلى السلطة، لا سيما بعد وصول “هيئة تحرير الشام” إلى الحكم في دمشق. لكن على الأرجح أنّ القطيعة الكاملة مستبعدة، ذلك أنّ القصر لطالما نحى نحو “إضعاف الخصم لا اقتلاعه”، لا سيما في حالة “الجماعة” التي ساهمت في تعبئة فراغات وحالت مرّات كثيرة دون تنامي راديكاليّات يصعب احتواؤها.

الأردن في وضع لا يحسد عليه في ظلّ ظروف داخلية وإقليمية ودولية استثنائية، فهو خطّ التماسّ الأوّل مع الجنون الإسرائيلي الذي يرى في الأردن وطناً بديلاً للفلسطينيين ويسعى بكلّ ما أوتي من جبروت ودمار إلى تهجير غالبيّتهم إليه. تضاف إليه ضغوط اقتصادية وماليّة ممنهجة من الخارج ومتوائمة مع الضغط السياسي. والأردن أيضاً صار الضلع الأخير لتسرّب النفوذ الإيراني الإقليمي نحو فلسطين والجنوب السوري، بعدما تعرّض لخسارة هائلة بكسر الضلع السوري.

الاستقرار الداخلي في الأردن ليس لمصلحة إسرائيل، وأيّ مسّ بسلمه الأهليّ لا يهدّد فقط أمن الأردن واستقراره، بل ما بقي من أمن في المنطقة برمّتها.

أمين قمورية

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.