إيران… من دون دسم عقائديّ؟

0

بقلم محمد قواص

«أساس ميديا»

حين قرّر الرئيس دونالد ترامب في ولايته الأولى الانسحاب من الاتّفاق النووي مع إيران عام 2018، قال إنّه يفعل ذلك لأنّه اتّفاق سيّئ. كانت حينها إيران ملتزمة بنسبة تخصيب لليورانيوم لا تتجاوز 3.67 في المئة. فرَض عقوبات وصفها بالتاريخية على إيران، فيما طالب وزير خارجيّته آنذاك، مايك بومبيو، طهران بتنفيذ لائحة من 12 شرطاً.

غادر ترامب السلطة. أصاب الاتّفاقَ النوويّ شللٌ لم تستطع الترويكا الأوروبية إنقاذه منه، وأطلق الحدث يد إيران في التحلّل من قيود الاتّفاق والقفز في نسب التخصيب عتبات وصلت رسمياً، وفق تأكيدات الوكالة الدولية للطاقة الذرّية، إلى 60 في المئة. يسهل على إيران القفز نحو عتبة الـ90 في المئة التي يحتاج إليها إنتاج القنبلة.

لم يكن البرنامج النووي الإيراني في النسخة التي أُعيد إنعاشها في عهد الجمهورية الإسلامية إلّا مشروعاً سياسياً هدفه رفع مستوى الدفاع عن النظام في طهران. بقيَ البرنامج سرّيّاً إلى أن كشفت تقارير، قيل إنّ مصدرها المعارضة الإيرانية، عن الأنشطة السرّيّة لهذا البرنامج الذي تعمل طهران على عسكرته تمهيداً للوصول إلى مستوى إنتاج القنبلة النووية. بدا لاحقاً أنّ الضغوط، التي قادتها إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، أثمرت عن مخرج “احتوائيّ” قيّد بشكل “مؤقّت” طموحات إيران وأنتج اتّفاقاً مع دول مجموعة “5+1″ عام 2015.

لم يكن انسحاب الولايات المتّحدة من الاتّفاق يتعلّق بحرَد ترامب. لم يفِ من بعده الرئيس جو بايدن بوعوده الانتخابية بالعودة إلى الاتّفاق النووي بأمر تنفيذيّ يقلب قرار الانسحاب الذي أصدره ترامب بأمر تنفيذي. بدا أنّ الولايات المتّحدة بمؤسّساتها العميقة لا تريد هذا الاتّفاق، وهو ما يبرّر الطابع التصعيدي الذي يقوم عليه موقف ترامب هذه الأيّام ويفسّر تحريك حاملات الطائرات والقاذفات الاستراتيجية حول إيران. من جهتها فهمت إيران أنّ العالم قد تغيّر منذ حرب غزّة، وأنّ سياق سقوط منافذها الخارجية و”عواصمها الأربع” آيل إلى مصير قاتم يدقّ أبواب طهران.

جنّة الاستثمارات في إيران

تخبّط ترامب في الولاية الأولى في شرح ما هو سيّئ في اتّفاق يفرض على إيران ضبط معدّل تخصيب اليورانيوم ويبقي عيون المراقبة الدولية مفتوحة على المفاعلات وحركة أجهزة الطرد المركزي. غير أنّ الرجل القادم من عالم “البيزنس” ربّما اكتشف أنّ بلاده غير حاضرة في اقتصاد إيران، على الأقلّ بشكل “عادل”، فيما تنشط هناك شركات أوروبية كبرى للملمة أعمالها وغادرت خوفاً من أن ينال بطش العقوبات من أعمالها في العالم. وحين أرادت طهران هذه المرّة التخاطب مع ترامب، سلّطت مجهراً على ما يمكن لاستثمارات الولايات المتّحدة أن “تتمتّع” به داخل اقتصاد إيران.

بعد حوالي عام من اتّفاق فيينا، وقّعت إيران في كانون الأوّل 2016 صفقة لشراء 80 طائرة من شركة “بوينغ” الأميركية. في حزيران 2018 قال متحدّث باسم الشركة الأميركية إنّه لم يعد لـ”بوينغ” رخصة لعقد صفقات بيع مع إيران بموجب قرار الرئيس دونالد ترامب الانسحاب من الاتّفاق النووي الإيراني عام 2015. فهمت طهران حينها أنّ طابع “البيزنس” معها ليس رادعاً لترامب عن إحداث حالة انهيار أطلقها مع طهران. لكنّ العالم تغيّر هذه الأيّام، وبدا أنّ طهران قد انتبهت إلى ما باتت المعادن النادرة تحدثه في ذائقة الرئيس الأميركي. قالت منابرها إنّه “لا مانع” لدى المرشد من دخول استثمارات أميركية تطال موارد البلد ومعادنه.

ليس سهلاً توقّع مآلات التفاوض. تجيد إيران هذه الحرفة وتملك مواهب شراء الوقت. وعدم السهولة لا يكمن فقط في ما يمكن وما لا يمكن أن تتنازل عنه طهران وتقدّمه في أيّ اتّفاق جديد، بل في الطابع المزاجي المتقلّب لما يريده ترامب. تكفي ملاحظة تذبذب المواقف الصادرة عن ترامب وإدارته لاستنتاج تعقّد الاستدلال على الهدف الأساسي للمفاوضات. فإذا ما كان ترامب يريد منع إيران من امتلاك السلاح النووي فهو انسحب من الاتّفاق الذي كان فعلاً يمنع ذلك، وإن كان يحتاج إلى تحديثات وبروتوكولات إضافية مكمّلة.

قطع الرّأس الإيرانيّ عن أذرعه في المنطقة

يبتسمون في طهران حين يجري تركيز واشنطن على مطلب إسقاط السلاح النووي. تبدو طهران جاهزة للعودة إلى ما نصّ عليه اتّفاق فيينا من قيود. ويعملون في طهران على استدراج واشنطن للانشغال بهذا الملفّ فقط لا غير. تعيد المنابر الرسمية التأكيد أن لا نقاش ولا تفاوض يتجاوز البرنامج النووي، فيما منابرها الإعلامية ترفض المسّ ببرنامج الصواريخ البالستية وعلاقة البلد مع “محور المقاومة”.

قالت واشنطن إنّ الصواريخ ستكون حاملة لرؤوس نوويّة، وهو ما يعني أنّها جزء من برنامج وجب وقفه، فيما تبرّع وزير الخارجية الروسيّ سيرغي لافروف بالكشف أنّ واشنطن تريد قطع الرأس الإيراني عن أذرعه في المنطقة وكبح نفوذ طهران في المنطقة. قال ذلك مستهجناً، وربّما في ثنايا القول غبطة وحبور.

الخوف من المجهول

تتعامل طهران بيسرٍ مع ما هو معلوم وما يقال لدى الإدارة في واشنطن. لا تقلقها التهديدات العالية النبرة التي تصدر من هناك فتردّ عليها بالتهديد والوعيد وبعض مشاهد من أنفاق عجائبية في بطون الجبال. لكنّها شديدة القلق من ذلك الغموض الذي لا يقال. تسري همهمة نقلاً عن قرّاء التاريخ تفيد بأنّ للمسار التصعيدي المزلزل الذي قضى بعد لحظة “طوفان الأقصى” على التمدّد الإيراني في المنطقة وأتاح إسقاط نظام بشّار الأسد في سوريا، نهاياتٍ منطقيّةً تطال النظام في إيران. تعرف إيران أنّها وحدها، وأنّ شراكاتها المزعوم أنّها استراتيجية مع  دول كبرى مثل روسيا والصين ليست إلّا حبراً على ورق ولا تغيّر من موازين القوى إذا ما تقرّر توجيه الضربات العسكرية الموعودة إلى داخل البلاد.

يذهب استراتيجيون إلى تسليط الضوء على الهاجس الصيني في مقاربة ترامب للهدف الإيراني. لعبت إيران دوراً في حرب أوكرانيا. هي جزء من تحالف محتمل قد يصبح عسكرياً مع روسيا والصين ولو بعد حين. كثيراً ما قيل إنّ ترامب يجاري بوتين لإبعاده عن بكين.

كثيراً ما يقال إنّ إيران يحبّ أن تُزاح عن حساب موازين القوى المحسوبة لمصلحة الصين. في واشنطن من يرى أن لا برنامج نوويّاً سلميّاً في إيران من دون أن تصبح إيران نفسها، بالقوّة أو الاتّفاق، دولة سلم. وفي طهران من يتوجّس من خطط لجعل البلاد دولة  من دون دسم عقائدي ثوري لإفقاد النظام ووليّه وحرسه مبرّر بقائهم ووجودهم.

محمد قواص

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.