إعلان بكين يحدّد الحكومة التي ستتولى السلطة مستقبلاً في غزة

37

بقلم د. ابراهيم العرب

في تطور لافت، أنهت الفصائل الفلسطينية، بقيادة حركتي فتح وحماس، جولة جديدة من الحوار الوطني في العاصمة الصينية بكين؛ وقد نتج عنها إصدار «إعلان بكين» لإنهاء الانقسام وتعزيز الوحدة الوطنية.

إنّ هذا الإعلان يأتي في وقت حساس، يمرّ فيه قطاع غزة بفترة حرجة بعد حرب إسرائيلية دموية لا تتوقف، خلفت دمارًا هائلًا وعددًا كبيرًا من الشهداء والجرحى والمصابين. ومع ذلك، فإنّ هذا، ليس أول اتفاق بين الفصائل الفلسطينية، ولكنه إعلان هام نتيجة الظروف والتحديات المستقبلية المحدقة بالدولة الفلسطينية من قبل الكيان الصهيوني، الساعي لتصفيتها.

من جهة أخرى، فإنّ توقيت إعلان بكين يحمل أهمية خاصة، فهو يأتي إبّان حرب مدمّرة على غزة، حيث فقد أكثر من 39 ألف شخص حياتهم وتعرضت البنية التحتية في القطاع الفلسطيني للدمار الشامل. وبذلك، زادت الضغوط على الفصائل الفلسطينية لتحقيق نوع من الوحدة الوطنية فيمَا بينها، لضمان إعادة إعمار القطاع وتحقيق استقرار سياسي؛ إلى جانب أنّ تصريحات وزير الخارجية الصيني وانغ يي، التي تلت توقيع الاتفاق، شدّدت على ضرورة تشكيل حكومة مصالحة وطنية مؤقتة تتولى تنفيذ بنود الاتفاق وإعادة إعمار غزة؛ حيث شمل إعلان بكين عدة بنود رئيسية تهدف إلى تحقيق الوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام، من أبرزها: الوصول إلى وحدة وطنية فلسطينية شاملة من خلال ضم جميع القِوَى والفصائل الفلسطينية في السلطة؛ كذلك الالتزام بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة التي تكون القدس الشرقية عاصمتها، وفقًا لقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة؛ إضافة إلى الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال وفق القوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة؛ والأهم تشكيل حكومة وفاق وطني مؤقتة بتوافق الفصائل المختلفة وبقرار من الرئيس الفلسطيني بالذات.

إنّ هذا الاتفاق يمثل خطوة هامة، ولو أنه يفتقر إلى جدول زمني محدّد للتنفيذ، ويثير مخاوف البعض من إمكانية تعثره نتيجة الضغوط الأميركية التي قد تمارس على السلطة الفلسطينية. كما أن إعلان بكين، ضم الاتفاق على الخطوط العريضة فقط، بينما لم يبحث في التفاصيل الدقيقة، ولا حتى في الانقسامات في المواقف بين حركتي فتح وحماس حول كيفية إدارة الحكومة الجديدة، ومصير السلاح الفلسطيني، والاعتراف بإسرائيل. إضافة إلى ذلك، فإنّ تنفيذ البنود المتعلقة بتوحيد المؤسسات الفلسطينية والتنسيق الأمني، يستوجب توفّر التزام حقيقي من جميع الأطراف، وهو ما لم يتحقق في محاولات سابقة. كما أن من القضايا المثيرة للإشكاليات التي لم يتم تناولها إعلان بكين بشكل مُفصّل هي مسألة المقاومة، ذلك أن الإعلان أشار إلى حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال وفق القوانين الدولية، مما يشرّع المقاومة المسلحة التي تتبناها حركتي حماس والجهاد الإسلامي، ولكن يثير خلافات عميقة حول كيفية توحيد الفصائل المقاومة المختلفة.

في المقابل، مهما كانت الثغرات الموجودة في الاتفاق، فإنه يكتسب أهمية كبيرة من خلال الدعم الدَّوْليّ والإقليمي الذي حصل عليه، لاسيما أن الصين وروسيا تلعبان دورًا رئيسيًا فيه، مما يفتح المجال أمام إمكانية تنظيم مؤتمر دَوْليّ للسلام تحت مظلة الأمم المتحدة. فضلًا عن أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس يسعى منذ فترة لإيجاد بديل للرعاية الأميركية لعملية السلام، بعد إصرار الإدارات الأميركية المتعاقبة على استعمال حق النقض في مجلس الأمن بوجه الاعتراف بالدولة الفلسطينية عضوًا مكتمل الصلاحيات في الأمم المتحدة، ويرى في الدور الصيني والروسي فرصة لإحداث خرق في جدار الصمت الدَّوْليّ حيال محاولة إسرائيل ضم الضفة الغربية والقضاء على السلطة الفلسطينية فيها؛ ولو أن هذا الدعم الدّولي لا يضمن بالضرورة نجاح الاتفاق، ما لم تُؤْمِن الفصائل الفلسطينية المختلفة أنها غارقة في مستنقع واحد، ومصيرها الزوال والاضمحلال ما لم تتوحد؛ وكذلك ما لم تتجنب الوقوع في أفخاخ إفشال الغرب محاولات المصالحة. ولكن من بين العوامل التي يمكن أن تؤثر إيجابًا على مستقبل الاتفاق هو موقف الشعب الفلسطيني نفسه، الذي بدأ يشعر بالإحباط من تكرار المفاوضات الفاشلة مع العدو الصهيوني، الذي لا يزال يتوسع بعمليات الاستيطان ولا يعير اهتمامًا لقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، مما يدفع بالفلسطينيين للتوحد والسعي للتوصل لحلول ملموسة وفعالة للمشاكل اليومية التي يعانون منها، مثل إيقاف سلب منازل الضفة والقدس وهدمها وأسر المدنيين والاعتداء عليهم وفرض الضرائب الباهظة.

إلى جانب أن الفصائل الفلسطينية أدركت أن مصيرها معلّق ببعضها البعض، وأن عليها المواجهة من خلال كلمة واحدة ممثلة بحكومة وفاق وطني تكون قادرة على تحقيق الأمان والاستقرار في المناطق الفلسطينية، سواء بدعمها لنهج المقاومة أو بلجوئها إلى المحافل والمحاكم الدولية والمنظمات الأممية للمطالبة بحق شعبها بتقرير مصيره بنفسه، ووجوب إذعان دولة الاحتلال لقرار محكمة العدل الدولية الذي يدعوها للخروج من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧، والاعتراف بالدولة الفلسطينية التي عاصمتها القدس الشرقية.

أما على الجانب الإسرائيلي، فإنّ الاتفاق لم يلقَ أبدًا ترحيبًا إسرائيليًا، فالحكومة الصهيونية رأت فيه محاولة لتوحيد الصف الفلسطيني ضدها، ولذلك صدرت تصريحات تعبر عن قلقها من إمكانية تشكيل حكومة تضم حماس، وهو ما رفضته إسرائيل بشدة. كما أن التصريحات الإسرائيلية أوضحت أنّ تل أبيب تعتبر هذا الاتفاق تهديدًا لأمنها القومي وخطوة تصعيدية خطيرة.

وتأسيسًا على ما تقدم، فإن إسرائيل ستحاول بكل ما أوتيت من قوّة أن تعيق تنفيذ الاتفاق على أرض الواقع، كتضييق الحصار أكثر على غزة أو زيادة الضغوط الأميركية على الرئيس محمود عباس لمنعه من دعم تشكيل حكومة وفاق وطني. وهذا ما قد يؤدي إلى تعقيد الأمور أكثر، وجعل تحقيق الوحدة الوطنية أمرًا صعب المنال، لاسيما أن الضفة الغربية والقدس الشرقية محتلتان صهيونيًا.

برأينا الشخصي، صحيح أن الطريق إلى تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية لا يزال مليئًا بالعقبات، ولكن إعلان بكين يمثّل خطوة مهمة جدًا نحو تحقيق هذا الهدف، الذي يجب لتحقيقه أن تتوافر رغبة حقيقية لجميع الأطراف بالالتزام ببنوده وبإنجاحه، كما يتطلب دعمًا دوليًا وإقليميًا مستمرًا، لاسيما من الدولتين العظمتين الصين وروسيا، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الأحداث القادمة على الساحة الميدانية في غزة سوف تلعب دورًا كبيرًا في تحديد مستقبل هذا الاتفاق.

علاوة على ذلك، فإن ما سيشجع الفصائل الفلسطينية على تنفيذ بنود الاتفاق، أن تشكيل حكومة وفاق أو وحدة وطنية جديدة سوف يمنح الفلسطينيين شرعية كبيرة أمام المجتمع الدَّوْليّ، وسيساهم بالوصول لقرار من مجلس الأمن يفرض وقف إطلاق نار شامل بغزة، وانسحاب الاحتلال، وإعادة إعمار القطاع، وتسليم السلطة فيه إلى الحكومة التي تمثل الشعب الفلسطيني والتي تحكم باسمه، وهذا يتطلب وعيًا من كل المسؤولين الفلسطينيين حول ضرورة وضع مصالحهم الشخصية جانبًا وإيلاء المصلحة الوطنية العليا الأولوية القصوى. كذلك، فمن المهم أيضًا أن تكون هذه الحكومة قادرة على التعامل مع الفصائل المسلحة وضمان إتمام دمج هذه الفصائل في القوات الأمنية الرسمية.

ختامًا، إننا نثني على الدور الذي تلعبه الصين وروسيا في دعم اتفاق المصالحة، الذي يمكن أن يكون عاملًا حاسمًا في نجاح إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وإيقاف محاولات إسرائيل بضم الضفة الغربية والإبقاء على احتلالها لقطاع غزة في السنوات المقبلة؛ لاسيما أن الصين تستخدم نفوذها السياسي لتحقيق الأمان في غزة، ونفوذها الاقتصادي لدعم إعادة إعمارها ولتحفيز الفصائل على الالتزام ببنود الاتفاق. أما روسيا، من جهتها، فإنها تلعب دورًا دبلوماسيًا أساسيًا في دعم الاتفاق على الساحة الدولية وفي الهيئات الأممية وتشكل ضامنًا كبيرًا لاحترامه من قبل جميع الأطراف؛ آملين أن يقترن إعلان بكين بجهود فلسطينية داخلية قوية لتحقيق مصالحة الفصائل المتعددة، ولتجاوز الخلافات القديمة ولإنهاء الانقسام الغير مبرّر بينها، ولتعزيز وحدتها الوطنية.

وفي النهاية، نؤكد بأن المستقبل سيكشف لنا مدى جدية الأطراف المعنية في تنفيذ هذا الاتفاق وتحقيق مصلحة الوطن والمواطن الفلسطيني، كما سيكشف مدى قدرة الفصائل الفلسطينية على تجاوز الخلافات الداخلية بينها والعمل سويًا لتحقيق أهدافها الوطنية السامية؛ فإذا تمكنت من ذلك، فإن أحلام إسرائيل بالسيطرة على كامل أرض فلسطين التاريخية ستتبدد، وسيتحقق السلام والاستقرار في المنطقة وستتعزّز حقوق الشعب الفلسطيني فور الاعتراف الأممي بدولته المستقلة وحقه بالمقاومة من أجلها.

د. ابراهيم العرب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.