إسرائيل: هكذا سرقت وزوّرت وسرّبت مستندات من الجيش للتلاعب بأهداف الحرب على حساب ”الاسرى”

16

يُستدل مما سمحت بنشره محكمة إسرائيلية أن خطورة “الفضيحة الأمنية” لا تنبع من تسريب مستندات سريّة، بعد تعديل وتشويه مضامينها، لوسائل إعلام أجنبية فحسب، بل سرقتها في الأصل من استخبارات جيش الاحتلال، طمعًا بإطالة أمد الحرب، وتأمين البقاء في سدة الحكم.

ومما يزيد من حساسية الفضيحة حقيقة كون المشتبه المركزي بها هو مستشار إعلاميّ لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، الذي سمحت محكمة “ريشون لتسيون (عيون قارة)” بالكشف عن هويته، ، ومدّدت اعتقاله، مع ثلاثة آخرين يعملون في المؤسسة الأمنية، بشبهة المشاركة في سرقة وتسريب المستندات السريّة.

المحكمة، التي أبقت معظم المواد والمضامين الخاصة بـ “القضية الأمنية” ممنوعة من النشر، أكّدت أنها تنطوي على مساس محتمل بتحقيق أهداف الحرب: “تحرير المخطوفين”. واتضح أن الجيش طلب من الشاباك، قبل نحو أسبوعين، فتح تحقيق بسرقة مستندات سريّة منه، ونشرها ليظهر التحقيق أن التسريب صدر عن مكتب رئاسة الوزراء.

 

كشف نقاط الاختراق

يشار إلى أنه، وفقًا لما سمحت الرقابة العسكرية بنشره، تمّ تسريب أخبار كاذبة ومفبركة لصحيفة “بيلد” الألمانية وصحيفة “جويش كروينكال” البريطانية، تستند لوثائق استخباراتية سريّة مشوهة تزعم أن “حماس” غير معنية بصفقة تبادل، وأنها تريدها حربًا طويلة. ولاحقًا اتّكأ نتنياهو وأبواقُه على هذه “التقارير الإعلامية” من أجل التأثير على وعي وسلوك الإسرائيليين وتبرير توجهاته برفض “الصفقة” وتعطيل مساعيها، مواصلة الحرب، رغم أنها مكلفة لإسرائيل أيضًا، علاوة على تبرير إصراره غير المفهوم إسرائيليًا على احتلال محور صلاح الدين (فيلادلفيا)، وإبقاء قوات إسرائيلية فيه من أجل منع “تهريب مخطوفين لليمن ولإيران”، حسبما جاء في “التقارير الإعلامية” الدولية. كما تمّ تحوير المستندات السرّية وترجمتها بشكل مضلّل، قبل تحويلها لصحف أجنبية (وسائل الإعلام الأجنبية بخلاف الإسرائيلية تستطيع نشر ما تحظره الرقابة العسكرية) من أجل تسويق مزاعم أخرى تقول إن يحيى السنوار وجّهَ جهات في “حماس” حول كيفية زرع الفرقى بين الإسرائيليين، وإدارة حرب نفسية ضدهم، واليوم بات واضحًا جدًا أن هذا التسريب المفبرك يهدف لمنع خروج الإسرائيليين للمظاهرات والاحتجاجات، تحاشيًا لـ “تحقيق أطماع السنوار”.

ويعبّر عن هذا الخلط الأخير، وتوظيف مقدّرات دولة لخدمة أطماع شخصية كاريكاتير صحيفة “يديعوت أحرونوت”، وفيه يبدو متظاهرون من أجل المخطوفين مقابل مكتب نتنياهو، ومنه تتجه نحوهم مسيّرة ورقية كتب تحذير فوقها: “دخول طائرة معادية”.

وفي حديث للإذاعة العبرية العامة،، توقّفَ النائبُ المعارض رام بن براك (هناك مستقبل)، نائب سابق لرئيس الموساد، عند أوجه خطورة الفضيحة، وتركّز باحتمالات الكشف عن المصادر.

وتابع بن براك: “بحال حصل فعلًا أن مكتب رئيس الحكومة شارك في سرقة مستندات ومعلومات استخباراتية من الجيش وتعديله، خدمةً لأجندة سياسية فئوية، فهذا يعني أن ذلك خطيرٌ جدًا، خاصة أنه يكشف للعدو عن مصادر الاختراق، فكشف الأوراق يسهّل عليه التعرّف على من كتبها، ولمن وصلت، وربما من سرّبها للعدو، ومعرفة ماذا تعرف إسرائيل عنها (حماس)، خاصة عند نشر أوراق بخط يد بعض قادة “حماس”، وغيره”.

رغم أن المتهم الرئيس بالفضيحة (إيلي فيلدشتاين) هو مستشار وناطق عملَ لجانب نتنياهو، في العام الأخير، فإنه يتنكّر له، ويواصل النأي بنفسه عنه، مثلما ينفي مشاركة مكتبه في السرقة والتسريب. ويقول هو وأبواقه “لم يعرف”.

على خلفية ذلك، وفي ظهور مشترك نادر لرئيسي المعارضة لابيد وغانتس، قال الأول ساخرًا،: “هذه الحقيقة ينبغي أن تكون مفزعة لكل إسرائيلي؛ عندما يقول نتنياهو كالعادة “أنا لم أعرف”، كما حصل في فضائح سابقة، مثل فضيحة الغواصات، ومقتل العشرات في جبل الجرمق جراء التدافع، وفضيحة السابع من أكتوبر، وغيره، فهذا يدفعنا للقول: “إن كنت تدري فتلك مصيبة، وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم”.

وقال غانتس: “طالما حذّرنا من وجود اعتبارات سياسية تسلّلت لقدس الأقداس (الأمن)، فسرقة وتسريب المستندات السرية لخدمة البقاء في الحكم ليست مخالفة جنائية، بل جريمة قومية كبرى”.

 

مسيرة انقلاب سياسي

رغم أن ما سمح بنشره هو غيض من فيض فقط، فإنها تبدو فضيحة حقيقية بمنظار مصالح إسرائيل في الأساس، فهي تدلّل على استعداد رئيس حكومتها للمتاجرة بمقدراتها الثمينة. الدولة في خدمة الزعيم، وعلى حساب مصالح الإسرائيليين. وتحمل أوساط إسرائيلية إعلامية أيضًا على نتنياهو، في ظل الشبهات الكبيرة بتداخله بالفضيحة الجديدة.

تحت عنوان “الماكنة تدهس”، يقول المعلق البارز ناحوم برنياع إن دولًا تمرّ بمسيرة انقلاب سياسي لا تعرف متى تصل نقطة اللاعودة.

ويمضي في مقاله المنشور في صحيفته “يديعوت أحرونوت” في تحذير الإسرائيليين: “من المحظور أن لا نرى ماذا يحدث في مكتب الحاكم، وداخل نفسه، وفي بيئته القريبة، وبماذا يسمح لنفسه بدافع قوة زائدة أو ضعف. هذا هو الذي يخيف بالقضية الأمنية. سرقة، تزوير، وتسريب مستندات سرية، بهدف التضليل في مسألة حساسة جدًا”.

برنياع، الذي حذّر، منذ بدء الحرب على غزة، من مآرب نتنياهو المتناقضة مع مصالح إسرائيل العليا، يقول أيضًا إنه بات واضحًا أكثر، اليوم، أن ماكنة نثر السم لها طريقة عملها: لا تكتفي بالمساس بصحفيين وسياسيين، وبشهود في محكمة الحاكم، فهي تدهس كل ما بطريقها، بمن في ذلك المخطوفون.

ويضيف: “هذه مسألة حياة أو موت. ليس تسريبًا، بل كذب، وتجسيد للروح الشريرة التي تقف خلف الاستعداد للتنكيل بأبناء شعبك ومواطني دولتك وبضحايا فشلك. هكذا يتصرفون في أنظمة الحكم الظلامية”.

وتبعه زميله المعلق الناقد عيناف شيف، الذي يرى أن الذي فاقم المشكلة في إسرائيل هو “الوضع الذي يسمح به القانون بأن يواصل رئيسُ حكومةٍ منصبَه رغم لوائح اتهام ضده، فهذا يفتح أبواب جهنم على إسرائيل… ينتهك قدسية مؤسّساتها، ويدمرها، ويتسبّب بتفتيت الإسرائيليين بطريقة غير قابلة للتصحيح”.

مع ذلك لا يمكن حصر “المشكلة” في إسرائيل بحكومتها، أو برئيسها نتنياهو، سواء على مستوى مواصلة الاحتلال، وسلب ونهب أرض الفلسطينيين ومقدراتهم، وارتكاب المذابح بحقهم، أو على المستوى الإسرائيلي الداخلي.

يبدو أن نتنياهو يستفيد من تغيّرات عميقة، ديموغرافية، واجتماعية، واقتصادية، في صفوف الإسرائيليين، وفي محيطهم العربي: بعد الربيع العربي، والتطبيع العربي، واستمرار النزيف الفلسطيني الداخلي، باتت إسرائيل، في السنوات الأخيرة، تشعر بالراحة أكثر من قبل، في ظلِّ تراجع التهديدات الخارجية، ما ساهم في تفجّر خلافات داخلية، كما تجلى خلال احتجاجات وسجالات 2023، وفي انغماس نخبها بمصالح فئوية بشكل فظّ، على حساب مصالح عامة، والتورّط أكثر بالفساد، علاوة على عوامل داخلية أخرى، كتبدّل النخب، وتراجع هيمنة اليهود الغربيين والعلمانيين لصالح الشرقيين والمتديّنين وغيره، ويبدو أنهم هم أيضًا ينتخبون من يشبههم ويعكس توجهات فاسدة، عنصرية وقومجية لديهم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.