إسرائيل تنتحر: عندما بكت “غولدا مائير”

57

بقلم محمد السماك

«أساس ميديا»

يقف العالم مذهولاً أمام حجم ونوع الجرائم ضدّ الإنسانية التي ارتكبتها وترتكبها القوات الإسرائيلية في قطاع غزة. ويجري التعبير عن هذه الصدمة من خلال التظاهرات الشعبية التي تكاد لا تخلو منها عاصمة أو مدينة كبرى من عواصم ومدن العالم. غير أنّ هذه الظاهرة ليست جديدة. الجديد هو أنّ العالم فتح عينيه على هولها ووحشيّتها. وساعدت أجهزة التواصل الاجتماعي في نشرها وتعميمها.

عندما تولّت المنظّمتان الإرهابيّتان اليهوديّتان “شترن” و”هاغاناه” تنفيذ خطط تهجير الفلسطينيين في عام 1948 راحتا تمارسان أبشع أنواع الجرائم ضدّ الإنسانية من قتل وترويع وتدمير بيوت وإحراق مزارع وتهجير جماعي. ولكنّ العالم لم ينتبه أو لم يكترث لتلك الجرائم ضدّ الإنسانية لأنّ دم اليهود في معسكرات الاعتقال النازية لم يكن قد جفّ بعد، ولأنّ رائحة الجثث اليهودية كانت لا تزال تخنق الأنفاس. في ذلك الوقت كان أيّ احتجاج أو معارضة أو حتى تلويح بالاستهجان ضدّ جرائم شترن والهاغاناه. يمكن أن يُفسّر على أنّه غلوّ في مشاعر اللاساميّة التي أدّت، على مدى عقود طويلة، إلى اضطهاد اليهود في المجتمعات الأوروبية من روسيا شرقاً حتى بريطانيا غرباً.

عندما بكت غولدا مائير

تذكر رئيسة حكومة إسرائيل السابقة غولدا مائير في مذكّراتها أنّها بكت عندما رأت قوافل الفلسطينيين حاملين أطفالهم وشيئاً من أمتعتهم وهم يهاجرون تحت الرصاص والقنابل التي كانت تمطرهم بها القوات الإسرائيلية. ولم يكن بكاء مائير عطفاً عليهم كما قالت هي نفسها. لكنّه كان نتيجة استعادة الذاكرة لما تعرّض له اليهود في دول مثل ألمانيا وبولنده على سبيل المثال.

اليوم تغيّرت الصورة. لم يعد منظر اليهودي المضطهد في مخيّلة الرأي العام الأوروبي والأميركي. فقد حلّت محلّها صورة الفلسطيني الذي تُسحق عظامه تحت ركام منزله المدمّر، أو يُقطع عنه الدواء في المستشفى الذي تحوّل إلى ركام، أو يعاني من الجوع والعطش بعد فرض الحصار العسكري الإسرائيلي برّاً وبحراً وجوّاً.

من هنا ارتفعت علامة الاستفهام في المجتمعات العالمية المتعدّدة حول كيف تحوّلت ضحيّة الأمس إلى مجرم اليوم.

في الحروب والصراعات العسكرية تُعتبر نسبة الضحايا المدنيين إلى أولئك العسكريين أساساً للحكم على القائمين بالحرب. ولكنّ حالة غزة من حيث عدد الضحايا المدنيين ومن حيث تدمير المباني السكنية والمدارس والمستشفيات. هي حالة غير مسبوقة في تاريخ الصراعات. ومن هنا ترتفع علامة الاستفهام العالمية حول أخلاقية الجيش الإسرائيلي، قيادةً وعناصر وسياسة.

تذكر الدراسات العسكرية الإسرائيلية أنّ نسبة الضحايا المدنيين إلى العسكريين هي اثنان إلى واحد. أي أنّه مقابل كلّ ضحيّتين من المدنيين هناك ضحية عسكرية واحدة. أمّا في غزة فقد تجاوز عدد الضحايا من أهاليها 34 ألف إنسان. ولم يُعرف من ضحايا حركة حماس سوى العشرات فقط. وهذا يعني أنّ الحرب الإسرائيلية على غزة هي حرب إبادة جماعية وعشوائية. فالنسبة هنا تعادل تلك النسبة التي ذكرها الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في وصفه للحرب الأميركية التي شُنّت على العراق في عهد جورج بوش الابن. فاستناداً إليه وصلت النسبة إلى 30 مدنيّاً مقابل عسكري واحد.

وفوق ذلك يقدّر خبراء منظمة الصحّة العالمية وهيئة الإغاثة أنّ غزة تحتاج إلى 500 شاحنة يومياً من الموادّ الغذائية لتوفّر الحدّ الأدنى من حاجة سكّانها. ولكنّ العدد الذي سمحت به السلطات العسكرية الإسرائيلية لم يكن يتجاوز مئة. وهذا يدلّ على أنّ ثمّة قراراً متّخذاً بالتجويع الجماعي، وهو جريمة ضدّ الإنسانية أيضاً.

مدرسة هتلر لم تندثر

تحاول إسرائيل أن تغطّي جرائمها أمام المراجعات الدولية بالقول إنّها تعتمد على التقنيّات الإلكترونية في اتّخاذ قراراتها في ما يتّصل بحدود ما تمنعه أو ما تسمح به، وإنّ نسبة المساعدات المسموح بها تحدّدها الأجهزة الإلكترونية، وإنّ هذه الأجهزة كانت ولم تزل الأساس أيضاً في تحديد حجم ونوع القذائف التي تُطلق على قطاع غزة. ومن خلال ذلك تحاول إسرائيل أن ترسم خطّاً فاصلاً بين المسؤولية الأخلاقية والالتزامات الإنسانية من جهة وبين الجرائم التي ترتكبها من جهة ثانية، محمّلة المسؤولية لـ”القرارات الإلكترونية” وليس للقرارات الإنسانية.

ربّما تدخل هذه القضية للمرّة الأولى في عملية المحاسبة عن جرائم الحرب، بحيث يُلقى اللوم على أجهزة “الذكاء الاصطناعي” وليس على الإنسان.

والآن على الرغم من كلّ ذلك فإنّ قادة حركة حماس لا يزالون في أمان. ولا يزال مئة من الأسرى الإسرائيليين في قبضة الحركة. وهذا يعني أنّ كلّ ما تسبّبت به الحرب الإسرائيلية من خراب ودمار وكلّ ما ارتكبته من جرائم أدانها الضمير العالمي في الشوارع والساحات العامّة. وحتى في محكمة العدل الدولية ومنظّمة حقوق الإنسان، لم يحقّق شيئاً من أهداف الحرب على غزة. فقد نقلت إسرائيل المجتمع الإسرائيلي من ضحيّة اللاساميّة إلى سفّاح القرن الواحد والعشرين. ذلك أنّ الانتقام من اللاساميّة يحدث في المكان الخطأ.

أدرك كثير من العلماء اليهود هذه الحقيقة منذ فترة طويلة وعبّر عنها “المؤرّخون الجدد” الذين حاولوا إعادة كتابة تاريخ إسرائيل معترفين بجرائم 1948 وقبلها. وقد ذهب بهم الإعراب عن الأسى أنّهم هاجروا من إسرائيل وعادوا إلى دولهم الأصلية.

اليوم تفاوض إسرائيل بالقصف من الجوّ والبرّ، والولايات المتحدة لا تبخل عليها بالسلاح والذخيرة. وتحاول تعزيز منطقها بالمزيد من القتل والتدمير والتجويع، غير مكترثة بالصورة التي رسمتها لذاتها في الضمير العالمي.

مدرسة هتلر في التوحّش لم تندثر معه. إنّها مستمرّة حتى في بقايا ضحاياه. وغداً عندما تبدأ إعادة إعمار غزة من جديد لا بدّ أن يُقام نَصب يقول: هنا انتحرت إسرائيل.

محمد السماك

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.