أنقرة – تل أبيب: لحظة الانفجار أقرب!

30

بقلم د.سمير صالحة
«اساس ميديا»
عاديّ أن لا نجد في تركيا اليوم من يدافع عن ضرورة حماية مسار العلاقات بين تركيا وإسرائيل. بل أن تلتقي كلّ المواقف عند التنديد بالممارسات الوحشية للجيش الإسرائيلي على جبهتي فلسطين المحتلّة وجنوب لبنان. وعاديّ جداً أن تلتقي قناعات الأحزاب التركية عند ضرورة توحيد الصفوف في مواجهة التصعيد الإسرائيلي الذي يهدف لإشعال المنطقة بأكملها تمهيداً لبناء شرق أوسط جديد بمقاييس أميركية إسرائيلية.
أوجز الرئيس التركي رجب طيب إردوغان موقف أنقرة ورؤيتها حول ما يجري في الإقليم بقوله إنّ إسرائيل ستدفع عاجلاً أم آجلاً ثمن ما ترتكبه من مجازر ضدّ الشعبين الفلسطيني واللبناني. لكنّ الواقع على الأرض يقول إنّ معرفة تفاصيل ما تخطّط له تل أبيب على الجبهة التركية في مشروعها الإقليمي الجديد، هو في مقدّمة ما يقلق الداخل التركي اليوم، وإنّ ما يقلق أنقرة أيضاً هو حروب الوكالة التي دخل أكثر من لاعب محلّي على خطّها في لبنان وسوريا والعراق واليمن. وهو ما يعقّد الأمور أكثر فأكثر، ويهدّد بتوسيع رقعة الجبهات ونقلها إلى مناطق جغرافيّة جديدة.
قناعة الكثيرين في الداخل التركي هي أنّ نتنياهو لن يهدأ حتى يحقّق نبوءة إشعال حرب عالمية ثالثة مركزها الشرق الأوسط، وبالتالي يصل إلى ما يريد من وضع مداميك إقليم جديد بدعم أميركي، وأنّ الهدف هو فتح الطريق أمام إسرائيل للتعاطي مع محيطها باعتبارها دولة نووية، تفرض معادلات إقليمية جديدة تنسف كل تفاصيل وتوازنات اللعبة القديمة. فهل ستنجح محاولات جر تركيا الى حلبة الصراع وحيث يطال مخطط الحرب وأهدافه بنيتها ومصالحها بشكل مباشر؟ وهي التي تعرف ان ترك الساحة وسط مساهمة مشرّعة أمام نتنياهو تعني مواصلته عربدته الإقليمية حتى النهاية؟
مخاوف تحت سقف البرلمان التّركيّ
ما الذي قيل تحت سقف البرلمان التركي خلال جلسته الاستثنائية والمغلقة التي انعقدت قبل يومين، والتي طالبت المعارضة بها على عجل، لمعرفة كيف يستعدّ الحكم للتعامل مع ما وصفه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بأنّه ممارسات وتهديدات إسرائيلية متصاعدة في الإقليم باتت تشكّل خطراً مباشراً على الأمن القومي التركي؟
زعيم المعارضة أوزغور أوزال يقول إنّه لم يسمع خلال الجلسة أكثر ممّا يعرفه، مع أنّه كان يريد أن يعرف أسباب وخبايا تحذيرات القيادة التركية من أنّ إسرائيل تسعى إلى تحقيق أوهامها التوسّعية لتشمل الأناضول، خصوصاً أمام سيناريو تقليص المسافة بين تركيا وإسرائيل إلى 170 كيلومتراً فقط في حال توغّل القوات الإسرائيلية باتّجاه شمال لبنان.
يردّد أوزال أنّ وقوف حزب الشعب الجمهوري إلى جانب الشعب الفلسطيني معروف، “لكنّنا لن نقبل بمحاولات تغيير برنامج أولويات المواطن على هذا النحو وإبعاده عن مشاكله وهمومه المعيشية. نريد أدلّة وبراهين تؤكّد ما يقال على لسان كبار المسؤولين حول التهديدات الإسرائيلية”.
ربّما يكون الموجع بالنسبة لقيادات “العدالة والتنمية” هو أن تسمع وتقرأ ما تقوله قوى المعارضة، ومنه التالي: “ننتقد إسرائيل وسياساتها وأطماعها في الأراضي التركية، لكنّنا لا نتردّد في الانفتاح عليها والتعاون والتنسيق التجاري والأمني معها”. وهناك من يقول أيضاً إنّ ما تُتّهم إسرائيل بالتخطيط له اليوم من استهداف ومطامع في جنوب تركيا كان يتمّ التفاوض حوله قبل سنوات على أساس الخدمات الإنمائية والاستثمارات المشتركة بين البلدين: فتل أبيب تقوم بتطهير آلاف الألغام المزروعة على الحدود التركية السورية، وأنقرة تقدّم لها صفقة زراعية استثمارية طويلة الأمد تصل إلى 49 عاماً في هذه المناطق.
أجواء جديدة في تركيا
صحيح أنّ تركيا قوّة عسكرية إقليمية لا يستهان بها، لكنّ ما يقلقها يتوزّع على أكثر من جبهة أيضاً. وللتدليل على وجود أجواء تركية جديدة نعدّد التطوّرات الآتية:
• الاصطفافات الأمنيّة والسياسية والاقتصادية القائمة على أكثر من محور بقيادة إيرانية تشمل 4 دول في المنطقة.
• هناك مجموعة أوروبية تحرّك ملفّ جزيرة قبرص كورقة استراتيجية دائمة التهديد لسياسات تركيا في شرق المتوسّط.
• استمرار المخطّط الأميركي الذي يغذّي إسرائيل اليوم أمام تقاطع الحدود السورية العراقية بشراكة السليمانية الكردية.
• يجب عدم تجاهل ما تريده موسكو وضرورة التعاون معها في القوقاز والقرم والبلقان.
• أمّا دمج الحدود السورية العراقية في إطار بناء كيان كردي أوسع فيفرح السليمانية ولن ترفضه إربيل عندما يعرض عليها.
• وبين ما يقلق أنقرة في الجانب الأميركي إعلان واشنطن معارضتها للتصعيد الإقليمي الذي قد يؤدّي إلى اندلاع حرب شاملة في المنطقة تضرّ بمصالح الكثيرين، ثمّ مسارعة القيادة الأميركية في الوقت نفسه للإعلان أنّها لن تتخلّى عن دعمها لتل أبيب وتنسيق عمليات الردّ العسكري على الجانب الإيراني.
تهجير أهل غزّة إلى جنوب لبنان؟
لكنّ الأخطر في تنافس السيناريوهات التركية حول أهداف إسرائيل الإقليمية هو تحذير البعض في تركيا من مخطّط إفراغ جنوب لبنان من مكوّناته الحالية وتسهيل توطين عشرات الآلاف من فلسطينيّي قطاع غزة والضفة الغربية فيه. الحديث عن التوطين الفلسطيني في لبنان قديم رفضه الشعب الفلسطيني والعالم العربي جملة وتفصيلاً منذ عقود حتى اليوم. وكان آخر من فعل ذلك القيادات المصرية والأردنية بعد اندلاع أحداث غزة في العام المنصرم وعروض الترانسفير باتجاه سيناء.
ما ينبّه إليه البعض في تركيا هو مشروع إسرائيلي بدعم أميركي يقوم على إفراغ إسرائيل مليوناً و200 ألف فلسطيني من غزة، ومليوناً و200 ألف لبناني من جنوب لبنان. وهناك سيناريوهات مستحيلة تقول إنّ الهدف هو نقل وتوطين الفلسطينيين الهاربين من غزة في المنطقة الواقعة في جنوب الليطاني وتبلغ مساحتها 875 كلم بدلاً من 363 كلم في غزة. وبالتالي محاولة إصابة أكثر من عصفور بحجر واحد: التخلّص من الحزب وقواه العسكرية في الجنوب، وإزاحة عبء القرار 242 الأممي وحلّ الدولتين عبر مخرج سياسي أمنيّ من هذا النوع.
لا تلعب تل أبيب أوراق السيطرة والاحتلال هذه المرّة بل تريد التلاعب بتركيبة وبنية المناطق التي تغزوها تمهيداً لرسم معالم المنطقة من جديد. وهذا واضح في سلوكها ومواقفها. هدف إسرائيل هو تحويل المنطقة إلى كتلة ناريّة متدحرجة. لكنّ العقل والمنطق والواقع القائم يرى أنّ خطة من هذا النوع لا تملك تل أبيب ولا واشنطن القدرة الكافية لفرضها على دول المنطقة حتى لو كانت توازنات اليوم تختلف عن توازنات عام 1983.
دولة أميركا العميقة وتغيير الخرائط
يلعب “الدينامو” الإسرائيلي دوراً أكبر في سياسة أميركا الشرق الأوسطيّة بعد التمدّد والتحرّر الاستراتيجي التركي والإيراني في الإقليم، وتراجع نفوذ واشنطن السياسي والعسكري لمصلحة روسيا والصين هناك. لكن تبدو خطيرةً السيناريوهات التي يطرحها بعض السياسيين والباحثين الأتراك خلال نقاشات ما يجري على الجبهات وأهداف “اليوم التالي”. لا تحذّر هذه النقاشات فقط من مسائل تغيير الحدود والخرائط في العديد من دول الشرق الأوسط، بل تتحدّث عن تبادل ديمغرافي ونقل سكّاني ودمج هويّات عرقية ودينية وبناء منظومة تقاسم ثروات جديدة في الإقليم. الهدف هو إنجاز ما فشل البعض في الوصول إليه بعد الحرب العالمية الأولى وتفكّك الإمبراطورية العثمانية، وصناعة “سيفر” معدّلة بعدما أفشلت أنقرة المحاولة عام 1920 وفرضت “لوزان” عام 1923. كلّ هذا يحاول أن يفعله نتنياهو بالتنسيق مع الدولة العميقة في أميركا ومراكز التخطيط الاستراتيجي البريطاني، وهم الثلاثي الناشط منذ عقود باتجاه تنفيذ هذه الخطّة. لكنّها توقّعات تستبعد تماماً قدرات بقية القوى الإقليمية والدولية الفاعلة إسلامياً وعربياً وغربياً، وتتجاهل ما يفعله ويريده الآخرون مثل الصين وروسيا والهند.
تريد أميركا تغيير الكثير من التوازنات في الشرق الأوسط بعد ظهور قوى إقليمية مثل تركيا وإيران تحاول التغريد خارج السرب. وقد تخطّط مع تل أبيب لصناعة شرطة إقليمية في مخافر متقدّمة تعطيها ما تريد على طريقة خمسينيات القرن الماضي في المنطقة. لكنّها تعرف أنّ ذلك بين المستحيلات اليوم حتى لو سجّلت اختراقات سياسية وعسكرية كبيرة، فمصالح الكثير من اللاعبين تذهب باتجاه آخر.
د.سمير صالحة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.