أميركا وديمقراطيّتها في أزمة
بقلم عبادة اللدن
«اساس ميديا»
لم تجد كامالا هاريس صعوبة في جمع ما يكفي من المندوبين للفوز ببطاقة الترشيح لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية عن الحزب الديمقراطي. لكنّ ذلك لا يعني أنّ الحزب الأزرق تجاوز الأزمة، ولا أنّ المؤسّسة الديمقراطية الأميركية خرجت من النفق.
أوّل ما قالته هاريس بعد ذلك كان كلاماً لا يليق بالتنافس على رئاسة أعظم ديمقراطية في العالم، حين استعادت تاريخها في القضاء كمدّعية عامّة في ولاية كاليفورنيا لتذكّر بأنّها تعاملت مع الكثير من “المجرمين والمحتالين”، مردفةً بأنّها تعرف “النوع” الذي ينتمي إليه منافسها الجمهوري دونالد ترامب.
تلك هي الإشارة الأولى إلى طبيعة الخطاب الانتخابي الذي تُقبل عليه أميركا في الأشهر المقبلة. إنّه صراع لا هوادة فيه، يزعم أحد طرفيه أنّ الآخر (ترامب) يهدّد الديمقراطية إذا فاز، ويزعم الآخر أنّ خصومه يستخدمون القضاء لإقصائه، ويتّهم قضاة بلاده بالتسييس والفساد، ثمّ ما يلبث أن يتعرّض لمحاولة اغتيال وسط الحشود.
هاريس خيبة أمل للدّيمقراطيّين
لم تمرّ الولايات المتحدة بأسوأ من هذا الصراع الانتخابي. كان يوصف بأنّه تنافس بين الأسوأين: متّهم بالفساد والاستغلال الجنسي مقابل عجوز مشكوك في قدراته الذهنية. وما حسم الصراع بينهما بالضربة القاضية في الجولة الأولى لم يكن أيّ شيء له علاقة بالبرامج الانتخابية أو بتصوّراتهما لعظمة أميركا واقتصادها ودورها في العالم، بل مناظرة تلفزيونية لم تختبر سوى القدرة على المبارزة الكلامية. وفي هذا الميدان بالذات تحاول هاريس استدراك الوضع المتردّي لحملة الديمقراطيين.
كانت هاريس خيبة أمل للديمقراطيين في السنوات الثلاث الماضية. كان المأمول في الدوائر المؤثّرة داخل الحزب أن ترافق جو بايدن إلى البيت الأبيض في ولايته الأولى لتخوض السباق الرئاسي بنفسها بعد أربع سنوات. لكنّها لم تكشف عن مزايا قيادية أو عن كاريزما تؤهّلها لمواجهة ترامب، وهذا ما أبقى بايدن في السباق إلى أن استنزف كلّ رصيده في المناظرة الكارثية قبل ثلاثة أسابيع، لينتهي به الأمر إلى الانسحاب من السباق في عطلة نهاية الأسبوع الماضي.
يحاول الديمقراطيون إظهار التفاف قويّ حول هاريس. وبدا ذلك من خلال الحجم القياسي للتبرّعات لحملتها الانتخابية، الذي بلغ خلال يوم واحد 84 مليون دولار، تضاف إلى رصيد يقارب 96 مليون دولار باقية لدى حملة بايدن. والاعتبار الماليّ مهمّ لأنّه أحد الأسباب التي دفعت الديمقراطيين إلى عدم البحث عن مرشّح آخر. إذ إنّ قانون تمويل الحملات الفدرالي لا يسمح لأيّ شخص آخر من الديمقراطيين غير هاريس بالاستفادة من الأموال التي جمعتها حملة بايدن، باعتبار أنّها كانت شريكته في السباق. لكنّ ما هو أهمّ من المال الاستمرارية. فليس لدى الديمقراطيين ما يكفي من الوقت لتقديم وجه جديد، ناهيك عن الاتفاق على اسمه، ولذلك هاريس أقرب ما تكون إلى مرشّحة الأمر الواقع.
معركة الدّيمقراطيّين ليست الرّئاسة
من يتابع الإعلام الأميركي يجد كلاماً كثيراً عن تسليم من “حكماء” الحزب الديمقراطي بأنّ من الصعب جداً قلب مسار السباق الرئاسي الذي يميل لترامب، لكنّ معركتهم الأهمّ عدم السماح للجمهوريين بالسيطرة على البيت الأبيض ومجلسَي الشيوخ والنواب، لأنّ ذلك سيسمح لترامب بتطبيق سياسته الاقتصادية كما يشاء. ولذلك بادر زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، وزعيم الأقلّية الديمقراطية في مجلس النواب حكيم جيفرز، إلى الضغط على بايدن للانسحاب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
يخشى الديمقراطيون تحديداً من نسف القوانين التي أقرّت في العامين الماضيين بعد مساومات مريرة، لا سيما قوانين “خفض التضخّم” و”الرقائق” و”البنية التحتية”، وإقرار حزمة مناقضة أهمّ ما فيها خفض الضرائب على الشركات من 21% إلى 20%، وربّما إلى 15%، علماً بأنّها سترتفع تلقائياً إلى 35% العام المقبل إذا أُقرّ قانون جديد لتمديد التخفيضات المطبّقة منذ عام 2017. ويضاف إلى ذلك سياسةٌ حمائية مشدّدة، يتوعّد ترامب بموجبها أن يفرض رسوماً بنسبة 10% على كلّ المستوردات، وبنسب تراوح بين 60% و100% على المستوردات من الصين. ويخشون في المجال الخارجي أن يوقف ترامب الدعم لأوكرانيا، ويخفّف من التزام أميركا بقيادة حلف “الناتو”، ويعود إلى مواجهة الجارين الأقربين كندا والمكسيك بسياسات حمائية تصل إلى حدّ العدائية. ومن دون أدنى شكّ سيتخلّى مجدّداً عن التزام الولايات المتحدة باتفاقية باريس للمناخ.
هاريس والشّرق الأوسط
ربّما علامة الاستفهام الكبرى تبقى حول السياسات الأميركية في الشرق الأوسط. ستكون زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لواشنطن هذا الأسبوع مختبراً لتوجّهات المرشّحين الرئاسيين. فكلاهما سيلتقيه. إلا أنّ هاريس لن تحضر خطابه في الكونغرس، بذريعة سفرها المجدوَل سابقاً إلى إنديانابوليس. وتنقل “وول ستريت جورنال” عن أحد مساعديها أنّها ستبلغه في لقائهما الخاصّ أنّه “حان الوقت لإنهاء الحرب بطريقة تحقّق الأمن لإسرائيل، وتطلق الرهائن، وتنهي معاناة المدنيين في غزة، وتعطي للفلسطينيين حقّهم بالكرامة والحرّية وتقرير المصير”.
تحيط بهاريس ضبابية أكبر على مستوى السياسات الشرق الأوسطية. فهي تبدو أقرب إلى تيار باراك أوباما، الذي قاد فكرة تخفيف الانخراط الأميركي في المنطقة، ولم يبذل أيّ جهد ملموس لإحياء مسار السلام أو حلّ القضية الفلسطينية على مدى ثماني سنوات. إلا أنّ صحيفة “وول ستريت” تتوقّع أن تقود هاريس تحوّلاً في السياسة الأميركية في حال فوزها، مستندة في ذلك إلى تأييدها لوقف إطلاق النار، وصوتها الأكثر ارتفاعاً في مطالبة إسرائيل بالحدّ من الإصابات بين المدنيين والتصدّي للأزمة الإنسانية في قطاع غزة. وتنقل الصحيفة عن السفير الأميركي السابق لدى الناتو خلال عهد أوباما إيفو دالدر توقّعه بأن تفرض هاريس ضغوطاً أكبر على إسرائيل “إذا لم يتحسّن الوضع بشكل دراماتيكي في قطاع غزة”.
أمّا ترامب فهو ترامب، لكنّ المنطقة تغيّرت. تحدّث قبل أشهر عن نقمته على نتنياهو لرفضه المشاركة في قتل سليماني، ويتحاشى إعطاء موقف واضح من إنهاء حرب غزة. كان الرجل في ولايته السابقة أقرب الرؤساء إلى إسرائيل. نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وتبنّى “صفقة القرن” التي نسفت إمكانية قيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967، وتوسّط للتوصّل إلى الاتفاقيات الإبراهيمية للتطبيع بين إسرائيل وعدد من الدول العربية. وكان الأكثر تشدّداً مع إيران، فمزّق الاتفاق النووي الذي أبرمه سلفه باراك أوباما، وفرض عقوبات مشدّدة أوصلت صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر في وقت من الأوقات، ووقّع على قرار اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني في بغداد.
لكن أيّاً يكن الفائز، من الصعب التعويل على انخراط أميركي في قضايا المنطقة بعد انتخابات تشرين الثاني المقبل. تبدو الأولويّات المحلّية طاغية، ويلوح في الأفق شبح ضعف اقتصادي نتيجة العجز الهائل في الميزانية، ووصل الدين الفدرالي إلى عتبة 35 تريليون دولار.
ستشرق شمس 2025 على ديمقراطية مأزومة في أميركا. ستكون أكثر انقساماً على المستوى المحلّي، وشديدة التأثير على المستوى الخارجي، وإنّما ليس بقدرتها على القيادة، بل بانكفائها إلى انقساماتها وحمائيّتها، وتحوّلها إلى شيء مختلف عمّا خبره العالم في عقودٍ من العولمة أوشك التاريخ فيها على الانتهاء.
عبادة اللدن