أميركا “بايدن” ليست أميركا “أيزنهاور”

67

بقلم عماد الدين أديب

«أساس ميديا»

لماذا جو بايدن ليس قويّاً ولا حاسماً؟

ولماذا بايدن في غزة ليس الجنرال أيزنهاور مع إسرائيل في حرب السويس؟

منصب الرئيس الأميركي هو أخطر وأعقد منصب تنفيذي سياسي في العالم منذ عام 1940. وزادت أهميّته حينما حسم الرئيس روزفلت موقف المشاركة الفعّالة لبلاده في الحرب العالمية الثانية (آب 1942) لمصلحة جبهة الحلفاء ضدّ دول المحور.

اليوم يتمّ طرح السؤال الصعب والأكثر تعقيداً: أما زال لهذا المنصب بريقه وأهمّية خاصة بعدما شاخ الاقتصاد وشاخ الدور الأميركي في العالم في ظلّ حكم رئيس شاخ في العمر وفي الأفكار؟!

لمئة سبب وسبب الرئيس بايدن ليس الرئيس أيزنهاور. أوّلها أنّ الرجل ليس الرجل والعالم ليس العالم والاقتصاد ليس الاقتصاد وإسرائيل ليست إسرائيل.

شخصيّتان مختلفتان تماماً في التنشئة السياسية والمواقف المبدئية.

من هو دوايت أيزنهاور؟

هو من مواليد جيل ت1 في 1890 وتوفّي عام 1968. شغل منصب الرئيس الـ34 للولايات المتحدة.

كان أيزنهاور قائداً عامّاً في الجيش الأميركي خلال الحرب العالمية الثانية. وكان معروفاً بقدراته القيادية والتنظيمية. برع في التخطيط الاستراتيجي. وكان مسؤولاً عن التخطيط والإشراف على غزو شمال إفريقيا. وبرز دوره الأكبر في عملية “الشعلة” عامَي 1942 و1943 وغزو الحلفاء الناجح عامَي 1944 و1945.

عُيّن عام 1951 أوّل قائد عسكري للناتو. وكان يحمل كلّ مواصفات الإدارة، الشجاعة، الحسم. في عالم فرضت بلاده نفسها عليه بفائض قوّة عظيم في كلّ المجالات.

ومن هو جو بايدن؟

أمّا جو بايدن فهو مدني بامتياز. قضى معظم حياته في السياسة وفي الكونغرس الأميركي. يسعى إلى نيل رضاء ناخبيه واسترضاء جماعات الضغط في الحزب الديمقراطي. وأهمّهم جماعات الضغط المفاخرة بالصوت اليهودي الانتخابي الذي يناصر تقليدياً الحزب الديمقراطي.

علاقة بايدن بمنظمة “إيباك” الصهيونية تاريخية وقديمة. ولم تعرف قطّ أيّ خلاف. بل عرفت فقط كلّ أنواع الدعم المالي والسياسي للرجل منذ أن كان في الكونغرس. ثمّ دعمته في رئاسة لجنة الشؤون الخارجية (أهمّ اللجان المؤثّرة في السياسة الخارجية للبلاد في المجلس التشريعي) . ثمّ دعمته للترشّح في قائمة الحزب للمرّة الأولى كنائب. ثمّ دعمته ليكون نائباً للرئيس. وأخيراً .وقفت “إيباك” بقوّة خلفه في حملته خلال انتخابات رئاسته الأولى. منذ دونالد ترامب الذي أهدى إسرائيل أهمّ جائزة سياسية، وهي نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلّ.

وصل جو بايدن إلى حكم الولايات المتحدة وهو منهك صحّياً، طاعن في السنّ، محطّم نفسياً بعدما فقد زوجته الأولى وابنته في حادث سيّارة. ثمّ فقد ابنه المفضّل “بو” نتيجة مرض عضال. وعاصر حتى الآن مشاكل ابنه القانونية لاتّهامه باستغلال النفوذ والفساد باستخدام قوّة منصب أبيه حينما كان نائباً للرئيس للحصول على منافع مالية من أوكرانيا.

وما زال هذا الملفّ مفتوحاً مثل الجرح النازف.

آخر التقارير الطبّية من طبيب البيت الأبيض تقول إنّ صحّة الرئيس العامّة مطمئنة وتمكّنه من أداء مهامّ منصبه دون عقبات.

لكنّ ما شاهده الناس جهاراً نهاراً هي حالات “التيه” و”عدم التركيز” والأخطاء في وصف الأسماء والأماكن والأشخاص بسبب ضعف التركيز وتأثّر الذاكرة بتقدّم العمر الذي يؤدّي إلى “الخرف”.

هنا يأتي التساؤل حول مدى قدرة بايدن على تحمّل مسؤوليّات المنصب لـ4 سنوات إضافية. هنا اختلاف خلفيّات بايدن وأيزنهاور وخلفيّات التوازنات العالمية وطبيعة قوانين هذا العالم.

زمن أيزنهاور بمعادلاته وتوازناته الدولية يختلف عن زمن بايدن.

زمن أيزنهاور”: أميركا القوّة الأكبر

زمن أيزنهاور هو زمن فيه 3 حقائق رئيسية:

1- خروج الولايات المتحدة الأميركية كقوة التأثير الأولى والمرجّحة بنصر الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.

2- تحوّل الاقتصاد المدني والعسكري الأميركي بعد خسائر أوروبا في أكلاف الحرب العالمية الثانية إلى اقتصاد وفرة ذي تأثير عظيم على الاقتصاد العالمي. إلى حدّ أنّه أقام مشروعاً عالمياً لإدارة وتنمية الاقتصادين الألماني والياباني.

3- تصدّر القوّة العسكرية الأميركية جيوش العالم من ناحية التسلّح والكفاءة والإنفاق العسكري. وأثبتت واشنطن باستخدامها السلاح النووي في هيروشيما وناغازاكي باليابان أنّها قادرة، ليس فقط على صناعة القنبلة، بل على استخدامها أيضاً.

وحتّى يومنا هذا هي القوّة الوحيدة التي استخدمت هذا السلاح.

أدّى كلّ ذلك إلى الاعتراف الضمني بالنفوذ والسيطرة والانفراد بالقوّة العسكرية والاقتصادية والماليّة لواشنطن.

من هنا أصبحت الولايات المتحدة تقود حلف “الناتو” وصاحبة حقّ النقض “الفيتو” في مجلس الأمن الدولي.

من هنا أيضاً أدركت واشنطن أنّها بكلّ معايير القوى هي الوريث الطبيعي المنطقي لنفوذ بريطانيا وفرنسا الذي غربت شمسه وأصبحت منطقة الشرق الأوسط مطمعاً وهدفاً أميركياً بامتياز.

أصبحت مصادر الطاقة النفطية مسألة جوهرية في المشروع الصناعي العظيم للولايات المتحدة.

كانت أوروبا بزعامة بريطانيا وفرنسا تحزم حقائبها بينما تدخل واشنطن لترث المنطقة.

كان أقوى تعبير عن ذلك هو الإنذار الأميركي الذي تقدّم به أيزنهاور لبريطانيا وفرنسا وإسرائيل بإنهاء العدوان على مصر في حرب السويس 1956.

زمن بايدن: توجّه أميركا “الباسيفيكي”

في حالة بايدن فإنّ الموقف الدولي معاكس تماماً من ناحية التوجّه الاستراتيجي لإدارته.

من يتابع حملة بايدن الرئاسية الأولى وتصريحاته سيجد أنّه كان يعبّر عن توجّه استراتيجي جديد تتبنّاه مجموعة وسط ويسار الحزب الديمقراطي.

كان هذا التصوّر مبنيّاً على 4 عناصر رئيسية:

1- مركز الاهتمام الاستراتيجي للمصالح الأميركية في ظلّ إدارته يجب أن ينتقل من الشرق الأوسط إلى جنوب وشرق بحر الصين ومنطقة الباسيفيكي.

2- ضرورة سحب كلّ القوات الأميركية المقاتلة في الشرق الأوسط (أفغانستان، العراق، الخليج) إلى منطقة الاهتمام الجديدة في الباسيفيكي.

3- احتياطات النفط الأميركية الحالية والمستقبلية في جنوب تكساس وإقليم فالديز تجعل الاعتمادية الاستراتيجية على نفط الشرق الأوسط ضعيفة ولا تزيد عن 10% من الواردات.

من هنا كان تفكير فريق بايدن (سوليفان، بلينكن، بيرنز، أوستن، شيرمان) هو الخروج من أفغانستان وسحب بطّاريات الصواريخ الأميركية وتقليل عدد الأساطيل وتخفيض درجة الاهتمام بالمنطقة.

شيء واحد أكيد لا يتغيّر ولديه الثبات الشديد، وهو دعم بايدن وإدارته وحزبه لمصالح ورغبات إسرائيل.

جاءت الأصوات القيادية في فترة رئاسة بايدن الأولى لتثبت أنّ الخروج الأميركي من الشرق الأوسط غير ممكن وخطر وضدّ مصالح واشنطن.

ما الذي غيّر “توجّهات” بايدن؟

ثلاثة أحداث قلبت معادلات بايدن رأساً على عقب:

1- العناد الإيراني في إنجاز اتفاق نووي قبيل حلول معركة الرئاسة الثانية.

2- أحداث 7 أكتوبر (تشرين الأول 2023) في غزة وجنون رئيس حكومة الحرب الإسرائيلية.

3- تيقّن دول المنطقة أنّ الرهان على واشنطن والثقة بوعود إدارة بايدن هو محض خيال وأوهام. وبدء تدعيم الجسور والعلاقات مع الصين، روسيا، الهند، ومجموعة البريكس، ومصالحة إيران.

ثبت لتيار اليسار الديمقراطي الذي كان يدفع إدارة بايدن إلى الربط الشديد والحازم بين مدى ديمقراطية الأنظمة و حجم الصداقة والتعاون مع واشنطن… أنّه أمر شبه مستحيل. لأنّ ذلك سوف يقيّد المصالح الاستراتيجية التاريخية للولايات المتحدة مع دول الشرق الأوسط.

باختصار: أيزنهاور كان يقود دولة تدخل المشهد الاستراتيجي العالمي كي تتصدّره. وبالتالي تريد أن تلعب دور البطولة في فيلم أميركي طويل يفرض تقدّمه على الجميع.

في المقابل بايدن كان يريد الخروج من المنطقة كي يلعب دور المعطّل التاريخي للقوّة العسكرية الروسيّة في أوروبا والقوّة التجارية الصينية الصاعدة.

بين أيزنهاور القويّ الراغب في دخول المنطقة وبايدن الحالم بالخروج للتفرّغ لروسيا والصين، يولد فراغ أميركي عظيم وثقب أوسع من الأوزون في السياستين العالمية والإقليمية، بانتظار من يملؤه.

عماد الدين أديب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.