أفيخاي وإيدي كوهين: قبلةُ الموت لمعارضي الحزب
بقلم محمد بركات
«اساس ميديا»
لا يختلف اثنان على أنّ صفحات المسؤولين الإسرائيليين الناطقين باللغة العربية هي صفحات موجّهة إلى الجمهور العربي، وليس إلى الجمهور الإسرائيلي، وهذه الأيام إلى الجمهور اللبناني، بل أكثر تحديداً، فإنّ صفحتَيْ الناطق باسم جيش العدوّ أفيخاي أدرعي، والناطق غير المعلن باسم دولة إسرائيل، المدنيّ، إيدي كوهين، تتوجّهان اليوم إلى شيعة لبنان.
بعد رصدِ طويل، هنا تساؤلات، عن هاتين الصفحتين، أهدافهما، وطريقة عملهما، والأهمّ: كيف تقودان الرأي العام، وتحدّدان لنا، من هو البطل، ومن هو العميل. وحين يتظاهران بأنّهما يحبّان معارضي الحزب: هل هما صادقَين؟ ولماذا يشاركان فيديوات لناشطين وصحافيين لبنانيين، يقتطعانها من مقابلاتهم، ويرفقانها بعبارات توحي بتحالفٍ ما بين الطرفين؟ لماذا يدّعيان أنّ هؤلاء الناشطين يخدمون دعاية إسرائيل؟ لماذا يعطيانهم “قبلة الموت”؟ ولماذا يصرّان على أذيّة معارضي الحزب؟
سؤالان بسيطان وسريعان:
1- صفحة أفيخاي أدرعي، لمن تتوجّه؟ للإسرائيليين؟ أم للعرب؟ واللبنانيين… والشيعة على وجه الخصوص هذه الأيّام؟ وهو يعرّف عن نفسه بأنّه “المتحدّث بلسان جيش الدفاع الإسرائيلي للإعلام العربي”.
2- صفحة إيدي كوهين العربية، لمن تتوجّه؟ للناطقين بالعبرية؟ أو بالعربية؟ وتحديداً للّبنانيين؟ وهو يعرّف عن نفسه بأنّه “صحافي إسرائيلي من يهود لبنان وباحث أكاديمي”.
هاتان الصفحتان هما الأكثر رواجاً في لبنان والعالم العربي لأنّهما تنشران أخباراً ومعلوماتٍ يأمل متابعوها أن تنقذ حياتهم في أحيان، وأن تسلّيهم أو تقدّم لهم ما يجب أن يعرفوه في أحيانٍ أخرى. وصفحة أفيخاي تحديداً باتت “بوصلة” كثيرين من سكّان الجنوب والبقاع والضاحية، تدلّهم إلى أماكن الخطر… واستطراداً، أماكن “الأمان”.
بالتأكيد، تقف خلف هاتين الصفحتين، ليس “الموساد” والجيش الإسرائيلي وحسب، بل أيضاً وأوّلاً:
– مراكز أبحاثٍ ودراساتٍ تمدّهم بالتدريبات اللازمة لممارسة التأثير.
– ومتخصّصون يدربّونهم لاكتساب المهارات الضرورية للتلاعب بالعقول.
– وأساتذة يمدّونهم بالنظريّات الأكثر حداثةً لتكتيكات الحرب النفسية.
– وحلقات بحثٍ ونقاشٍ تحرص على أن يتعلّموا كلّ ما وصلت إليه علوم الغرب وتقنيّاته، من أجل الوصول إلى عقول المتابعين والتأثير فيهم وزرع الأفكار التي تخدم:
1- المعركة العسكرية أوّلاً. وهي ستنتهي عاجلاً أو آجلاً،
2- والمعركة الثقافية والسياسية والتاريخية ثانياً. وهي لن تنتهي، ولم تنتهِ في دول دخلت “السلام” منذ عقود، أبرزها مصر والأردن.
سؤال ثالث: من هو “الصّديق”؟
بعد الاتفاق على أنّ هاتين الصفحتين تمثّلان جبالاً من “العلوم” الإعلامية والنفسية والعسكرية، ننتقل إلى سؤال ثالث، أكثر أهميّة:
– إذا قال عدوّك إنّ “فلاناً” صديقه، فهل تعتبر أنّ هذا “الفلان” صديقكَ؟ أو تشكّ فيه على الأقلّ، وربّما تكرهه؟ أو ربّما تقرّر أنّه بالتأكيد سيكون عدوّك؟
يمكن طرح السؤال بطريقة أخرى:
– إذا قال أفيخاي أدرعي إنّ أحد نواب الحزب هو صديقه، ونشر صورةً تجمعه به. هل يستمرّ مناصرو الحزب ومحبّوه في اعتبار هذا النائب ممثّلاً لهم؟ أو يعتبرونه “عميلاً إسرائيلياً”؟
لنذهب بالسؤال إلى أبعد من هذا:
– ألا يعرف أفيخاي أدرعي وإيدي كوهين أنّه حين يصدران تأييداً (Endorsement) بحقّ هذا الصحافي اللبناني، أو ذاك السياسي الشيعي في لبنان، ستكون نتيجته المنطقية هي “تخوين” هذا السياسي أو الصحافي في بيئته أوّلاً، وعلى مستوى وطني ثانياً؟
بل أكثر من هذا:
– حين تقرّر مراكز الأبحاث التي تقف خلف أفيخاي أدرعي وإيدي كوهين أن تطلب منهما مشاركة فيديوات ومقالات أو منشورات لناشطين وسياسيين وصحافيين لبنانيين… ألا يكون ذلك بقرارٍ واعٍ هدفه تشويه سمعة هؤلاء وتحويلهم إلى “أهداف” سياسية؟
– ألا يكون ذلك هدفه خلق “فتنة” وإشكاليّات حول هذه الأسماء؟
– أوليس الهدف النهائي هو “تحييد” هؤلاء ونزع مصداقيّتهم؟
العملاء الحقيقيّون: لماذا لا يعلنهم أفيخاي وإيدي؟
في المنطق نفسه، إذا كان أفيخاي “هبيلة” وإيدي “بسيطاً وساذجاً”، فلماذا لا يعلنون أسماء العملاء الحقيقيين الذين أمدّوا إسرائيل بالمعلومات التي أدّت إلى اغتيال قادة الحزب كلّهم، بمن فيهم الشهيد الأمين العامّ للحزب؟
إذا كانت إسرائيل “على نيّاتها” في هذا الملفّ، كما قد يحلو للبعض القول أو التفكير… فلماذا لا يخرج أفيخاي لينشر صور عملائه في الأجهزة الأمنيّة وفي أجهزة الحزب وفي الأحزاب اللبنانية؟ وليعلن “فخره” بهم وبما قدّموه لإسرائيل؟
ولماذا لا يخرج إيدي كوهين ليقدّم إشادات يومية بكلّ الذين تعتمد عليهم إسرائيل في عمليّاتها اليومية؟ وبالسياسيين الذين يعملون لديها؟ وبالناشطين الحقيقيين، المندسّين في المجموعات المُمانعة؟ أولئك الذين بالتأكيد لا ينتقدون الحزب ويمارسون أشدّ أنواع التقيّة معه، ويطبّلون له ليلاً ونهاراً، فيحبّهم ويقرّبهم ويرفّعهم، ليصلوا إلى حيث يريدهم الإسرائيلي.
لماذا يقدّمان لنا “قبلة الموت”؟
يبقى تعقيب أخير، بأسئلة أيضاً:
– لماذا يقدّم أفيخاي أدرعي وإيدي كوهين “قبلة الموت” لمعارضي الحزب؟
– لماذا يريدان أن يكون هؤلاء المعارضون مكروهين في لبنان؟
– ولماذا تعتبر “الدولة العميقة” في إسرائيل هؤلاء خصومها؟
– ولماذا تريدهم معزولين؟
– ولمصلحة مَن في الداخل اللبناني؟
سأحاول الإجابة بسرعة:
تهشيم صورة المعارضين للحزب في الداخل اللبناني لا يخدم إلا الحزب. هذا واضح ولا يحتاج إلى نقاش.
أمّا السبب والهدف، فهو الأهمّ:
إسرائيل تحبّ حماس. موّلتها. مرّرت لها الأموال طوال العقود الماضية. نصرتها على السلطة. وحافظت على “مُلكِها” في غزّة بوجه حركة “فتح”. ولولا حماس لما استطاعت تدمير غزّة والتوحّش في مشروع استيطان الضفة الغربية، وقتل وجرح نحو 200 ألف غزّيّ، وتشريد المليونين الآخرَين.
وإسرائيل تحبّ الحزب. حين ذهب إلى سوريا، بين 2011 و2023، 12 عاماً لم تطلق عليه رصاصة واحدة في جنوب لبنان. على الرغم من أنّ جنوده كانوا كلّهم في سوريا، وكان يمكنها اجتياح لبنان بسهولة. ولولا الحزب لما دمّرت الجنوب كلّه، وصولاً إلى النبطية وصور. ولما دمّرت البقاع والضاحية وأجزاء من بيروت، دون كلفة تُذكَر.
حماس والحزب يشبهان، من حيث تكوينهما الديني، إسرائيل المذهبية. حركة دينية سنّيّة، وحزب ديني شيعي. تفرح بهما إسرائيل اليهوديّة العنصرية. هذا هو مشروع هرتزل الأساسي: “دويلات مذهبية ضعيفة، تحيط بالدولة اليهودية الأقوى في المنطقة”.
أمّا المعارضون الوطنيون، الذين يطالبون بدولة وطنية، ذات عمقٍ عربي، وانتساب إلى الحضارة العالمية، عبر المجتمع الدولي، وعبر الثقافة الغربية، إلى جانب الانتماء العربي… فهؤلاء هم الخطر الحقيقي. هؤلاء يمكن أن يبنوا دولة وطنية قويّة، خارج الأوهام الدينية، دولة تتفوّق على إسرائيل، على الأقلّ بالشرعية الأخلاقية أوّلاً، ودولة تكشف هزالة العنصرية الإسرائيلية.
استطراداً، يمكن الاستنتاج أنّ كلّ من يعاديهم أفيخاي أدرعي علناً، ومن يشتمهم إيدي كوهين علناً، يُرجّح أن يكونوا من “أصدقاء إسرائيل” الحقيقيين. هذه ألف باء الأمن والاستخبارات. عليكَ أن تبتعد عن مشغّلكَ الحقيقي، وأن يشتمكَ. وعليك أن تتقرّب من عدوّك لتكشف أسراره وتربح ثقتَه.
ملاحقة الدّاخل… الخسارة أمام إسرائيل
ليس مبالغة القول إنّ واحداً من أسباب هزيمة الحزب أمام إسرائيل، هو أنّه كان مشغولاً بمطاردة خصومه السياسيين في الداخل. خصّص مئات ملايين الدولارات، وجهود عشرات الآلاف من شبّانه، لشتم الخصوم على مواقع التواصل، ولملاحقة الناشطين المساكين وضربهم، خصوصاً الذين خرجوا في 17 تشرين ليطالبوا بدولة وطنية بلا فساد ولا فاسدين. في حين كانت إسرائيل تسنّ أسنانها وسكاكينها لتقطّع أوصال حزبهم، كان شبّان الحزب يلاحقون هذا الكاتب وذلك الناشط، وتلك المُعارِضة. أهدروا جهودهم في مطاردتنا وملاحقتنا وقتلنا، وأهملوا، نسبياً، الحرب مع إسرائيل.
ذهبوا إلى سوريا لصيانة خطّ إمداد لم يصمد أسبوعين حين بدأ عدوان أيلول والحرب الحقيقية. وضعوا شيعة لبنان في عداء تاريخي مع أهل سوريا، بحجّة حماية طريق، سدّت في اليوم الأوّل للحرب، وستظلّ مسدودة. راقب الطريق وعادى أهل الطريق وسكّان القرى المتاخمة له.
خسر الحزب حربَه قبل أن تبدأ. حين استدار إلى الداخل وعادى كلّ اللبنانيين. وحين عادى العرب وحاول غزوهم. وحين ذهب إلى سوريا، ونسي إسرائيل. حين قرّر مطاردة خصومه السياسيين، بدلاً من العملاء الأمنيّين، الذين قدّموا رؤوس قادته على أطباق جاهزة، وهم من داخل “المطبخ المُقاوِم”.
الأمل أن يكون الحزب قد تعلّم الدرس… الخصوم السياسيون قد يكونون بوصلته لتصحيح مساره. هذه هي الديمقراطية. هؤلاء ليسوا أعداءكَ. وحين يتظاهر أفيخاي أدرعي وإيدي كوهين بأنّهما يحبّانهم، ويعطيانهم “قبلة الموت”، ربّما عليه أن يتأنّى، وأن يراجع نفسه.
محمد بركات