أحلام استعادة الدّور: الأخطاء الإيرانيّة مستمرّة
بقلم حسن فحص
«أساس ميديا»
التطوّرات المتسارعة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط أو بلاد الشام، لم تسمح للنظام الإسلامي في طهران بالتقاط أنفاسه. ولم تمنحه الفرصة ليدرك ما يجري من حوله أو القدرة على اتّخاذ الموقف والقيام بالخطوات التي تخفّف من حجم ما لحق به من خسائر وتداعيات. سواء على الساحة اللبنانية، من خلال الضعف الواضح في الأداء السياسي الذي يعاني منه حليفها “الحزب”، أو الآثار السلبية للانهيار الصادم للنظام السوري بقيادة بشار الأسد. وما شكّله من تصدّعات عميقة في بنية وأساسات المعادلات الإقليمية التي كان المشروع الإيراني يقوم عليها في المنطقة.
الكلام الإيراني عن وجود تعاون وتنسيق ثلاثي الأبعاد أو الأقطاب، بين أميركا وإسرائيل وتركيا، كان الركيزة الأساس في قراءة النظام وقيادته العليا لما حصل من تطوّرات. وللقول إنّ الهدف منه إحداث تغييرات جذرية وتصدّعات في موازين القوى في المنطقة والعالم. بما يخدم الهدف الأميركي الإسرائيلي المشترك بإضعاف المحور الإيراني. وبما يسمح بتحويل تركيا إلى وريث للدور الإيراني. كي تكون لاعباً محوريّاً من خلال توظيف موقعها الجيوسياسي لتحقيق طموحاتها بأن تكون شريكاً فاعلاً في الإقليم من البوّابة السورية.
القراءة الإيرانية الأولى لهذه التطوّرات كانت من المرشد الأعلى للنظام. فهو أوّل من تحدّث عن محور بأقطاب ثلاثة هي أميركا وإسرائيل وتركيا. وامتنع عن تسمية الأخيرة ولمّح إلى دور “إحدى دول الجوار الإيراني” في ما شهدته الساحة السورية.
تحمل هذه القراءة في طيّاتها استعادة لتاريخ طويل من التنافس بين البلدين الأساسيَّين في هذه المنطقة الجغرافية. التي تعرف تاريخياً بـ”الهضبة الإيرانية”. خاصّة ما يتعلّق بالصراع الإيراني التركي، الذي يحبّذ البعض تسميته بـ”الصراع الصفوي – العثماني” على تقاسم النفوذ والدور في المنطقة. وسعي كلّ منهما لاعتبار منطقة بلاد ما بين النهرين وصولاً إلى بلاد الشام امتداداً لعمقها الاستراتيجي.
ضعف العقل الاستراتيجيّ الإيرانيّ
الهروب إلى الأمام واتّهام تركيا بالتنسيق مع أميركا وإسرائيل للانقلاب على المعادلات الإقليمية، تكرّرا بوضوح في خطابات المرشد الإيراني. وذلك تعليقاً على التطوّرات السورية والإقليمية. وكرّرته من ورائه كلّ القيادات السياسية والعسكرية. وهو ما يكشف عن حجم الصدمة التي أصابت منظومة السلطة وما شعرت به من خسائر قد يكون من الصعب ترميمها بسهولة أو سرعة. وهو هروب يحاول القفز على الأخطاء التي تكشّفت عن الضعف الذي يعانيه العقل الاستراتيجي المكلّف بالتخطيط في هذه المنظومة.
محاولة البحث عن جهة لتحميلها المسؤولية عن هذه التطوّرات أو الانقلاب، تحمل على الاعتقاد بأنّ القيادة الإيرانية تعاني من أزمة في قراءة المتغيّرات. وأنّ هذه الأزمة تاريخية ومتراكمة. لا تنحصر في هذه المرحلة التاريخية من عمر النظام وطموحاته الخارجية. بل تعتبر امتداداً لأخطاء وقعت بها كلّ السلطات التي حكمت إيران على مدى التاريخ. خاصة الإسلامي بعد القرن السادس عشر وصولاً إلى اليوم.
تجاهلت القيادة الإيرانية السنن التاريخية التي حكمت الصراع بين الجغرافيا الإيرانية والجغرافيا التركية. وأنّها لم تكن ثابتة لأيّ منهما على مدى سنوات هذا الصراع. وهو ما جعلها تذهب نحو محاولة فرض حقائق قطعيّة ونهائية لتثبيت سيطرتها ونفوذها في الجغرافيا السياسية لهذا الصراع والتنافس وامتداداتها. معتمدة في ذلك على مستوى عالٍ من الثقة بالنفس وفائض قوّة وفّرته القوى المتحالفة معها في الإقليم. وهذا ما منع ويمنع عليها الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبتها في التعامل مع اللاعبين التاريخيين أو المستجدّين في هذه الجغرافيا السياسية التي تشكّل ساحة الطموح الإيراني.
إيران لم تحسب حساب تركيا وإسرائيل
هذه الثقة وهذا الشعور بفائض القوّة جعلا القيادة الإيرانية والمحور الذي تقوده يسقطون من حساباتهم أيّ إمكانية حقيقية لحصول تغييرات دراماتيكية أو جذرية في المعادلات التي سعت إلى تكريسها في هذه المساحة الجيوسياسية وأهداف المشروع الاستراتيجي الذي تقوده. وظنّت أنّ حالة الاستنفار الدائم التي تعيشها مع حلفائها واستعراض القوّة المستمرّ، سيمكّنانها من التعامل مع أيّ مستجدّ أو تطوّر يستهدف النيل من هذين الدور والنفوذ. وهو ما جعلها تستبعد من احتمالاتها أنّ الأطراف المتضرّرة في المقلب الآخر، لن تسمح لها ببناء هذا المشروع على حساب مصالحها التاريخية كما في الحالة التركية، أو المصالح المستجدّة في الحالة الإسرائيلية. وأنّ هذين الخصمين الإقليميَّين من الصعب عليهما السكوت أمام هذه الطموحات. خاصة أنّ هذا المثلّث (التركي الإيراني الإسرائيلي) قد أخرج من اعتباراته أنّ المساحة الجغرافية والجيوسياسية التي يحاول السيطرة والهيمنة عليها هي ساحة عربية، وأنّ اللاعب العربي لن يسمح لهم بتقاسم هذه الجغرافيا على حساب مصالحه وأمنه واستقراره.
الدور المحوري والمفصليّ الذي تقوده تركيا في المشهد السوري، بالتعاون مع الدولة القطرية، وحجم الانكفاء الروسي الذي قد يصل إلى حدّ تعزيز الاعتقاد لدى القيادة الإيرانية بوجود صفقة روسيّة تركية من جهة، وروسية أميركية إسرائيلية من جهة أخرى، جعلا طهران تستفيق من آثار الصفعة التي تلقّتها من هذه الأطراف. لتجد نفسها وحيدة في مواجهة هذه المتغيّرات المتسارعة التي تستهدف فقط وجودها ونفوذها ومصالحها الاستراتيجية. بحيث تصبّ في الهدف الأميركي – الإسرائيلي المشترك الساعي إلى محاصرتها وتقليم أظافرها وتقطيع أذرعها وإجبارها على العودة إلى داخل حدودها. خاصة أنّ التطوّرات السورية ستوفّر الأرضية الصلبة لكلّ من تركيا وقطر لتحقيق الأهداف القديمة التي تطمحان لها في هذه المنطقة من البوّابة السورية. بحيث يحلّ التركي مكان الإيراني في المعادلات الإقليمية. وتستطيع الدوحة تحقيق أهدافها الاقتصادية ذات البعد الاستراتيجي التي تسمح لها بتصدير مصادر طاقتها إلى الأسواق الأوروبية بسهولة.إيران لم “تستوعب” الخسارة بعد
في المقابل، ما تزال القيادة الإيرانية تعتقد أنّ الأمور لم تصل إلى المستوى الذي يضعها في خانة خسارة كلّ الأوراق. إذ تعتقد بأنّ عليها إعادة النظر في سياساتها الإقليمية بالتزامن مع تعزيز قدراتها الدفاعية الشعبية وزيادة الاهتمام بتحقيق العدالة الاجتماعية والأمور المعيشية للإيرانيين والانسجام والوفاق الوطني داخلياً. ثمّ الانطلاق باتّجاه إعادة ترتيب ما بقي لها من أوراق إقليمية وما تملكه من نفوذ وتوظيفه في ترميم موقعها. من خلال الرسائل التي وجّهتها في المناورات العسكرية المركّبة التي قام بها حرس الثورة وقوّات التعبئة “الباسيج”، لتقول إنّها استعادت قدراتها على مواجهة أيّ اضطرابات داخلية أو اعتداء خارجي جوّي أو برّي.
تراجعت الرهانات الباقية للنظام الإيراني إلى حدود العمل من أجل الحفاظ على ما تملكه من نفوذ على الساحة العراقية وإبعاد هذه الساحة عن التجاذبات الحاصلة بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية. بالإضافة إلى تعزيز موقف جماعة الحوثي في اليمن والتركيز على الدور الاستراتيجي الذي تلعبه هذه الجماعة من خلال تحكّمها بمضيق باب المندب والبحر الأحمر وطرق التجارة الدولية فيه. خاصة أنّه يشكّل استكمالاً للمناورة العسكرية للحرس الثوري، التي تضمّنت محاكاة لإقفال مضيق هرمز. بحيث تكون في نهاية المطاف قادرة على توظيف ما بقي لديها من أوراق من أجل بناء تحالفات مع دول الشرق لتعزيز مناعتها لمواجهة الضغوط الأميركية، ووضعها على طاولة التفاوض المحتملة مع واشنطن، كمدخل لإنهاء العقوبات والمحاصرة وما تحمله من مخاطر تضع النظام في مواجهة مصير معقّد داخلياً وإقليمياً.
حسن فحص
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.