أحزاب إيران أهملت البشر.. وعجزت عن الحُكم

45

بقلم عبادة اللدن

«اساس ميديا»

لن يعود الشرق الأوسط كما كان في صباح 7 أكتوبر 2023. ما زالت معالم الواقع الجديد تتشكّل في الميدان، لكنّ نموذج التنظيمات المرتبطة بإيران بات على المحكّ، ومن الصعب أن يستمرّ في الاستئثار بقرار الحرب من دون استحقاقات السلم، أو يستمرّ في الهيمنة على السلطة مجرّدةً من المسؤوليّة.

تستطيع إسرائيل أن تزعم أنّها كسرت “الاستاتيكو” القائم في المنطقة منذ عقدين. من كان يصدّق أنّ إسرائيل ستعيد احتلال قطاع غزة بأكمله، من بيت حانون ومخيّم جباليا إلى رفح؟ ومن كان يصدّق أنّها ستغتال الأمين العامّ للحزب ومعظم الصفّ القيادي العسكري الأوّل فيه، وتدمّر مقداراً يصعب تحديده من مخازن الصواريخ؟

هذا الواقع العسكري والسياسي الجديد يطرح سؤالين كبيرين ما زالت الإجابة عليهما في طور التشكّل والاختبار:

  1. سؤال حول التوازنات الإقليمية الجديدة، خصوصاً في ما يتعلّق بحدود النفوذ الإيراني في الإقليم.
  2. وسؤال حول إعادة إرساء توازنات جديدة في الداخلين الفلسطيني واللبناني.

لا شكّ أنّ السؤالين ما زالا مفتوحين على الفصول المقبلة من الصراع العسكري، لا سيما التوغّل الإسرائيلي البرّي في لبنان، والردّ المرتقب على إيران وما قد يستتبعه من ردّ معاكس. غير أنّ الواضح أنّ نموذج عمل الميليشيات المرتبطة بإيران بات على المحكّ، بوجهيه السياسي والعسكري.

عجز نموذج المقاومة عن “الحكم”

إشكال التنظيمات المنضوية في المحور الإيراني أو المرتبطة عضوياً به، أنّها قدّمت نموذجاً فاعلاً ومنجِزاً في القتال والأمن والتنظيم السرّي والتعبئة العقائدية، واكتسب امتداده الشعبي في هذه الميادين مجتمعة، لكنّه لم يقدّم نموذجاً ناجحاً في الحكم والمسؤولية عن حياة الناس. وهذا هو المحكّ الآن فيما لو تداعى النموذج العسكري الأمنيّ لهذه التنظيمات.

وزاد من حدّة الإشكال أمران:

  1. أنّ الطرف الآخر في الثنائية، وهو الدولة الوطنية، قدّم في صورته المقتدرة منجزاً واضحاً في تحسين حياة الناس في دول المنطقة، لا سيما في السعودية والإمارات. وما أكثر المقارنات التي يطرحها تباين الصورة بين عواصم تديرها الدولة الوطنية المقتدرة والمدن التي تحكمها تلك التنظيمات ما دون الدولة.
  2. أنّ إيران، راعية نموذج التنظيمات ما دون الدولة، أوضحت للجميع أنّ هذا النموذج لا يسري على داخلها، بل على الدول التي حوّلتها إلى “ساحات”، فآثرت سلامة ترابها وشعبها ومدنها على شعارات الإسناد والأيديولوجية.

لم يكن الإشكال مطروحاً بهذا الوضوح حين كانت هذه التنظيمات “مقاومات” على هامش السلطة تقاتل على النمط الثوري. لكن في هذه الحرب بالذات كانت التحدّي مختلفاً. لم تكن “حماس” نظيراً لجبهة التحرير الوطني في الجزائر، أو للجيش الجمهوري في إيرلندا الشمالية، بل كانت حزباً حاكماً على مدى عقدين، لديه وزاراته وإداراته وشرطته وجهازه الأمنيّ.

ويسري شيء من ذلك على الحزب الذي قدّم نفسه بعد حرب تموز 2006 مسؤولاً عن حياة “شعب المقاومة”، أو من يسمّيهم “أشرف الناس”، من “وعد” إعادة الإعمار إلى المدرسة إلى المستشفى إلى “القرض الحسن” إلى “بطاقة السجّاد”. وهو فوق ذلك واضح التحكّم بالبرلمان والحكومة والمنافذ الجوّية والبحريّة والبرّية، يستطيع بجولة لقمصانه السود أن يسقط حكومةً ويشكّل أخرى. وهو القوّة الإقليمية التي تبسط نفوذها من سوريا إلى العراق واليمن ودول أخرى كثيرة. وإذّاك لا يظلّ الازدواج ممكناً في ذهن العامّة بين ثنائية الدولة والمقاومة لأنّ المقاومة صارت جيشاً وسلطة فوق الدولة، ولا يمكن لمن هو فوق الدولة ألّا يكون مسؤولاً عن انتظام حياة الناس وكرامتهم.

الوصول إلى السّلطة… والتّنصّل من مسؤوليّاتها

غريبةٌ عن التراث الإسلامي على وجه الخصوص هذه النزعة إلى نفض اليد من المسؤولية عن حياة المدنيين غير المقاتلين. لكنّ تنظيمات “المقاومة” كان لها منطقها. فقد كانت تقول للناس إنّها مسؤولة عن الانتصار، لا عن أمانهم في مدنهم وقراهم. بل إنّها ترى ذلّ العدوّ بانطلاق صفّارات الإنذار في المدن الإسرائيلية، وفي لجوء الإسرائيليين إلى الملاجئ!

غير أنّ تلك التنظيمات، وبعدما خوّنت الآخرين ووصمت الدولة الوطنية بالضعف وقلّة الحيلة والكفاءة، لم تقدّم نموذجاً مختلفاً في بناء الدولة والحوكمة والاقتصاد وجودة حياة الناس، حتى بعدما طلبت أصوات الناس في صناديق الاقتراع وحصلت عليها، ثمّ تمكّنت من مفاصل السلطة، صراحة في غزة وصنعاء، ومن وراء حجاب في لبنان والعراق.

في هذه السنة المزلزلة منذ 7 أكتوبر 2023، طُرح إشكال المسؤولية عن حياة الناس كما لم يُطرح من قبل. كانت التنظيمات الحاكمة تعرف معرفة اليقين أنّها لا تستطيع حماية أرواح المدنيين ومنازلهم ومرافقهم العامة، لا بالحماية العسكرية ولا بتوفير الملاجئ. ومع ذلك ذهبت إلى الحرب بالثنائية القديمة، باعتبار أنّ معيار النصر لا يحدّد بمقدار ما يمكن حفظه من كلّ هذا، بل بمقدار ما يمكن الاحتفاظ به من القوّة العسكرية. وهكذا بالكاد تمكّنت حكومة “حماس” في غزّة من إحصاء أعداد الشهداء، فيما لجأ الحزب إلى “الدولة” التي امتهنها لإدارة ملفّ النزوح والتعويضات.

بيئة الحزب لم تجد سوى “الدّولة”

لا بدّ من الإقرار أنّ الحزب تطوّر بعض الشيء في مقاربته للأمر على مدى العقدين الماضيين، ربّما لأنّه يخوض عراكاً سياسياً داخلياً، ويحتاج إلى إجماع بيئته ليحتكر، مع حركة أمل، ثنائية تمثيل الطائفة الشيعية في النظام. ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر مسارعة الحزب بعد حرب تموز 2006 إلى دفع مساعدات نقدية فورية لمن هدمت بيوتهم، وحصر الهجمات بالمواقع العسكرية على مدى العام الماضي، للحفاظ على معادلة “المدني مقابل المدني”. بل يقتضي الإنصاف الإشارة إلى أنّ الحزب كانت لديه خطّة أو شبه خطّة لإدارة اللجوء في الحرب الراهنة، أقلّه من حيث توجيه النازحين إلى وجهة دون أخرى، والتحرّك على الأرض وفتح المدارس والمرافق وحتى الشقق، ولو بالشدّة إذا اقتضى الأمر.

لكنّ ذلك كلّه لا يقلّل من أنّ قاعدة الحزب تهجّرت، وانقلبت حياتها بعد 18 عاماً من السلم، ولم تجد سوى الدولة ملجأً أخيراً تعتمد عليه في فتح مراكز الإيواء واستقبال المساعدات وتوفير الخدمات.

تجنّب الحزب الأسئلة الصعبة في الحروب الماضية بصمود نموذجه العسكري، على قاعدة أنّه “ينتصر إذا لم يهزم”. لكن ماذا لو لم ينتصر في هذه الحرب؟ هل يمكن لجيل من عشرات آلاف الشبّان الذين لم يعرفوا لأنفسهم وظيفة في الحياة سوى أن يكونوا رجال حرب ضمن هذا النموذج العسكري الأمنيّ، أن يتحوّلوا إلى نموذج آخر؟

لم يكن الفصل ممكناً بين ميزان الحرب مع إسرائيل وميزان النفوذ السياسي في الداخل. كانت المقولة العسكرية المقاوِمة الوجه الآخر للمقولة السياسية الداخلية. في لحظة انتهاء الحرب عام 2006، قيل لجمهور الحزب إنّ الآخرين في الداخل راهنوا على إسرائيل لسحقكم، وإنّهم “يريدون أن يعيدوكم عتّالين وماسحي أحذية”. وهكذا انتهت معركة الخارج لتبدأ معركة الداخل. والآن تتكرّر الهواجس نفسها. يقول متكلّمو الحزب إنّ بعض قوى الداخل تسعى لفرض رئيس للجمهورية تحت ضغط القصف الإسرائيلي، كما جرى عام 1982.

يشي ذلك بأنّ الحزب ليس مستعدّاً لخوض السياسة الداخلية في ميدان متساوٍ لا يحظى فيه بسطوة السلاح. تلك السطوة التي كانت تسقط حكومات وتفرض أخرى بمجرّد أن تنتشر القمصان السود في شوارع بيروت، وهي التي فرضت ميشال عون رئيساً للجمهورية عام 2016، بعد عامين من الفراغ.

ربّما تضارب الإشارات الصادرة من الحزب في ما يتعلّق بفصل المسار عن غزة، وتطبيق القرار الدولي 1701، يشي بأنّ هناك استشعاراً جدّياً بأنّ هذا النموذج برمّته على المحكّ. وربّما تكشف الأيام المقبلة عن مقاربات مختلفة داخل الحزب لكيفية التعامل مع الواقع الجديد، ومع القوى الأخرى في الطيف السياسي.

ولذلك في الحزب من يقول: الأمر كلّه في الميدان.

عبادة اللدن

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.