هل ينقذ النأي بالنفس رأس سوريا من العاصفة؟
بقلم أمين قمورية
«أساس ميديا»
هل ينقذ الصمتُ وانحناء الرأس والنأي بالنفس النظام السوري من العاصفة الإسرائيلية التي تضرب لبنان وحليفه الأبرز الحزب بعدما أنزلت خراباً في فلسطين؟
مرّت سنة على “طوفان الأقصى” الذي ولّد حروباً ومتغيّرات قلبت الإقليم رأساً على عقب وتجاوزت غزة والحدود الشمالية مع لبنان لتصل إلى إيران مروراً بالعراق واليمن، ولا يزال موقف النظام السوري عصيّاً على الفهم والتفسير، وزادته بعض الإشارات هنا أو هناك التباساً، فسوريا هي الضلع الوحيد في محور المقاومة الذي بقي خارج إطار المقاومة قولاً وفعلاً، ولم تكلّف خاطرها عناء ردّ الجميل ولو لفظياً لفصائل المحور التي قاتلت بشراسة إلى جانبها. ولم يتغيّر موقفها حين وسّعت إسرائيل نطاق هجماتها على الحزب، واغتالت نخبة قادته، بمن فيهم أمينه العامّ حسن نصرالله، كذلك لم يحرّك ساكناً حين توغّلت قوات إسرائيلية في الجنوب السوري في 12 من الشهر الجاري، وغضّ النظر عن استهداف “فيلا” مخصصة لاجتماعات شقيق الرئيس ماهر الأسد.
دمشق المتحوّلة
بدت دمشق في تصريحاتها الرسمية ومواقفها إزاء العدوان في غزة ولبنان أشبه بدولة في جنوب شرق آسيا تعلّق على أحداث تجري في دولة من دول أميركا اللاتينية، وليس كدولة عربية كانت تعتبر ركناً من أركان المواجهة في الصراع العربي الإسرائيلي.
ساق “الأصدقاء” تبريرات عدّة لرفع تهمة التلكّؤ عن النظام، منها الظروف الفائقة الصعوبة في سوريا والسعي إلى تفادي تهديدات إسرائيلية مباشرة ورغبة الرئيس في تعويم نظامه والعودة إلى الحضن الرسمي العربي، وترافق ذلك مع تسريبات عن تفاهمات أُبرمت تحت الطاولة عبر وسطاء عرب مع الإدارة الأميركية لضمان مستقبله مقابل حياده، وأخرى عن خلافات مع طهران على خلفيّة الاغتيالات المتكرّرة لقادتها والمواقع العسكرية على أراضيه.
لكنّ ذلك لم يحُل دون تلبّد غيوم الزوابع الإسرائيلية فوق السماء السورية، فكان لافتاً تحذير الرئيس التركي رجب طيب إردوغان من أنّ الإسرائيليين “سيغزون دمشق بعد لبنان”، منبّهاً من أنّ “ذلك يعني وصول الجنود الإسرائيليين إلى حدود تركيا وتمزيق الخريطة السورية بالكامل”. وطالب روسيا وإيران وسوريا بأن تتّخذ إجراءاتٍ أكثر فاعلية لحماية سلامة الأراضي السورية.
كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوّل من حذّر الأسد في لقاء مفاجىء في تموز الماضي من تصعيد خطير في المنطقة يشمل سوريا بشكل مباشر. لكنّ موسكو التي حافظت على درجة تنسيق عالية مع تل أبيب، أعادت نشر قوّاتها في الجنوب السوري، وانسحبت من نقاط عدّة، ولم تبدِ أيَّ اعتراض على العمليات الإسرائيلية على الأراضي السورية.
أعقبت ذلك تصريحات لرئيس حزب “إسرائيل بيتنا” أفيغدور ليبرمان، طالب فيها بأن يحتلّ الجيش الإسرائيلي الجزء السوري من جبل الشيخ في الجولان المحتلّ، منعاً لأيّ هجوم على إسرائيل، وعقاباً للأسد على “جعل سوريا قاعدةً لوجستيةً ومركزاً خلفيّاً لأعداء إسرائيل”.
ولمّا كانت كلّ المؤشّرات تشي بأنّ العدوان الإسرائيلي على لبنان سيكون طويلاً وقد يسلك مسارات غير متوقّعة وخارج الحسابات، فإنّ الجنوب السوري يبقى في عين العاصفة في إطار الخطّة الإسرائيلية لتفكيك المحور الإيراني وتفكيك حلقاته في لبنان والضفة الغربية وغزة، نظراً لتماسّ هذه الجبهة الجنوبية السورية مع الجبهة اللبنانية، ولاستثمار نافذة الفرص المتاحة لتعزيز وضع إسرائيل الاستراتيجي في الإقليم.
تمتدّ جبهة الجنوب السوري عبر أرياف درعا مروراً بالقنيطرة والريف الغربي لدمشق، وتتمركز فيها بنية عسكرية وخلايا “يقظة” أو “نائمة” للحزب والميليشيات الحليفة الذين شاركوا في إطلاق صواريخ في اتّجاه الجولان المحتلّ. وقد تستخدم إسرائيل هذه الجبهة لفتح “دفرسوارات” في الحدود الشرقية للبنان لقطع التواصل بين البقاع والجنوب وقطع طرق إمداد الحزب من الأراضي السورية وتوفير الظهير الآمن لجنودها إذا تمكّنوا من التوغّل في عمق الأراضي اللبنانية. ومع اشتداد القتال واحتمال توسّعه نحو إيران، قد تلجأ طهران إلى تفعيل هذه الجبهة، على الرغم من التحفّظات السورية الرسمية، اعتقاداً منها أنّ شلّ الحزب سيشكّل دينامية تؤدّي إلى إسقاط النظام السوري وصولاً إلى استهداف نظام الجمهورية الإسلامية نفسه، وربّما تهدف أيضاً من خلالها إلى توريط روسيا عبر تهديد مصالحها من إسرائيل.ماذا ستفعل المعارضة؟
في ظلّ الوضع السوري المأزوم واستعصاء الحلّ السياسي الداخلي، قد تجد المعارضة السورية في اللحظة السياسية الخانقة فرصة للتمدّد على حساب النظام وتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية وتعديل خرائط خطوط التماسّ الداخلية واستجداء الدعم الأميركي والغربي. فقد أعلنت غرفة عمليات “الفتح المبين”، التي تضمّ “هيئة تحرير الشام” و”الجبهة الوطنية للتحرير”، المنضوية ضمن “الجيش الوطني السوري”، و”جيش العزّة”، عن تحضيرات لشنّ عملية عسكرية لاستعادة مدينة حلب وأجزاء من ريفَي محافظتَي حلب وإدلب، والمشاركة في تحقيق هدف إنهاء الوجود الإيراني في سوريا، عبر استغلال انشغال الحزب و”الحرس الثوري” الإيراني بالمعركة الكبرى مع إسرائيل والضربات الجوّية التي توجّهها الطائرات الإسرائيلية للمواقع العسكرية للنظام وحلفائه داخل الأراضي السورية. وهذا ما دفع بالقوات الروسية والإيرانية والجيش الإسرائيلي إلى الردّ بعمليات استباقية من القصف الجوّي والبرّي.
ينطبق الأمر نفسه على “قوات سوريا الديمقراطية” في شرق الفرات التي قد ترى اللحظة مناسبة لتوسيع انتشارها في منطقتها الحيوية وتعزيز الحكم الذاتي لأكرادها وصولاً إلى عتبة الانفصال. وهذا ربّما ما أثار غضب إردوغان وقلقه من أن يؤدّي أيّ هجوم إسرائيلي في سوريا إلى تهديد وحدتها والأراضي التركية.
قد يرى البعض في صمت الأسد سياسة “رشيدة” تتماشى مع قرار دول عربية عدّة التزام “الحياد”، لأنّ أيّ خطأ في الحساب يعني الخطأ الأخير والقاتل. لكن هل هذا الموقف وحده يمنحه “الثواب” في ظلّ تعقيدات المشهد الإقليمي واحتدامه وعواصفه الهوجاء؟ ألا تزال في جعبته الأوراق الكافية لتلبية الطلبات الأميركية والإسرائيلية: إضعاف النفوذ الإيراني وإنهاء وجود الحزب في سوريا والمساعدة في ضبطه في لبنان وإعادة ضبط أمن الحدود؟ أم ضرورات قيام نظام إقليمي جديد وتغيير اللعبة في الشرق الأوسط باتت تحتّم تغيير اللاعبين والخرائط؟
أمين قمورية