هكذا يفكّر بوتين
بقلم نديم قطيش
«أساس ميديا»
لا شيء عاديّاً في لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. مقرّ إقامته الرسمي “نوفو أوغاريوفو”، الواقع على بعد كيلومترات قليلة إلى الغرب من العاصمة موسكو، والذي يعدّ أحد أبرز معالم السلطة في روسيا وأكثرها خصوصية، يشبهه في كلّ تفاصيله. ليس المكان مجرّد منزل فاخر أو استراحة رسمية، بل مركز استراتيجي يضجّ بحيوية المساعدين والمستشارين وقاعدة عمليات نشطة تفرز كلّ القرارات المتعلّقة بمصير روسيا والعالم. عزلة المقرّ المبنيّ وسط غابة على أساسات مبنىً آخر يعود تشييده إلى القرن التاسع عشر، تعكس بشكل كبير نهج بوتين القائم على فائض الخصوصية، والتحكّم الكامل والتخطيط البعيد المدى.
أمّا الإجراءات الأمنيّة والطبّية المشدّدة (3 فحوصات بي سي آر)، فتُشعر الزائر أنّه عاد إلى حقبة جائحة كورونا، حين تحوّل المقرّ الى غرفة العمليات الرئيسية التي يدير منها بوتين الدولة والملفّات الدولية عبر الاجتماعات الافتراضية غالباً.
تأخّر الرئيس بوتين عن موعدنا نحو ساعة، وكنّا قد سبقناه إلى المقرّ بساعات قبل المقابلة، كي نكون في عزلة طبّية، داخل فقاعة المقرّ المعقّم. في إحدى القاعات التي وضعت بتصرّفنا، تابعنا على الشاشة كلمته خلال الجلسة العامة لمنتدى أعمال مجموعة بريكس بموسكو، الذي يسبق انعقاد قمّة “بريكس +” هذا الأسبوع في قازان الروسيّة. في كلمته أكّد بوتين أنّ وتيرة النموّ في مجموعة بريكس أعلى من نظيرتها في مجموعة السبع، وأنّ السيادة الاقتصادية تتعزّز لدى دول المجموعة، من خلال مشاريع عملاقة مثل أسطول كاسحات الجليد النووية وتحديث شبكة الأقمار الصناعية، بالإضافة إلى آليّات المدفوعات بغير الدولار والاستثمار في التبادلات التجارية بالعملات الرقمية.
البريكس نافذة بوتين لفكّ الحصار
تمثّل القمّة بالنسبة لبوتين منصّة استراتيجية لتحدّي محاولات عزله من قبل الدول الغربية، سياسياً واقتصادياً. بوجود دول مثل الصين، الهند، البرازيل، وجنوب إفريقيا التي تشكّل تحالفاً قويّاً وغير غربي، بالإضافة إلى دعوة موسكو 38 دولة، أكّدت 32 منها مشاركتها، بينها 24 ستكون ممثّلة على مستوى القادة، يطمح الرئيس الروسي لتقديم بلاده كقوّة دولية لا تزال تحظى بالتأييد والدعم، وقادرة على كسر العقوبات الغربية، وتعزيز فكرة العالم المتعدّد الأقطاب.
يحفظ بوتين الأرقام بدقّة متناهية. يخبرك أنّ مجموع الناتج الإجمالي المحلّي لدول “بريكس” أكثر من 60 تريليون دولار، وهو ما يزيد على مثيله عند مجموعة السبع، وأنّ زيادة هذا الفارق أمر حتميّ. يبدي تفاؤله بأن تنمو مجموعة “بريكس” بنسبة 4%، وهو أعلى من معدّل دول مجموعة السبع الذي يقف عند حدود 1.7% ونموّ الاقتصاد العالمي الذي لا يتجاوز 3.2%. يلفت نظرك باستمرار إلى أنّ دول “بريكس” تستحوذ على ربع صادرات السلع في العالم، وأنّها دول مهيمنة على عدد من الأسواق من بينها أسواق الطاقة.
يقول بوتين إنّه لا يسعى لتغيير النظام العالمي. ويشدّد على أنّ “بريكس” ليس تجمّعاً مضادّاً للغرب. هو ببساطة تجمّع غير غربي، يطمح لأن يحقّق التعدّدية القطبية كبديل عن الأحادية الأميركية في إدارة شؤون العالم. توفّر هذه الفروقات التي يصرّ عليها نافذة مهمّة على طريقة تفكيره. نهج فلاديمير بوتين في السياسة الدولية يقوم على مزيج من البراغماتية الباردة، والتفكير الاستراتيجي المدفوع دوماً بديناميات القوّة والتصميم على إحياء مكانة روسيا كلاعب عالمي.
على عكس رؤى السياسيين المثاليين أو دعاة التعاون العالمي، أو ما يراه الروس نفاق الساسة الغربيين، فإنّ تفكير بوتين ينصبّ على الواقعية الصرفة في مقاربة العلاقات الدولية، التي يسودها التنافس بين القوى العظمى. لا تُحرّكه الأيديولوجية بقدر ما تحرّكه الحسابات الباردة لتعزيز مكانة روسيا الاستراتيجية، وهو ما يجعله جاهزاً دوماً لإبراز قوّة بلاده كلّما دعت الحاجة، لا سيما في مواجهة الغرب وحلفائه. ذلك السبيل الأمثل، بالنسبة له، لحماية المصالح الوطنية، والدفاع عن السيادة الروسيّة.
الأصدقاء أقلّ فهماً لرؤيته
بإزاء هذه الملامح التي تتوافر رؤيتها عند الاقتراب من بوتين، يراودك الشعور بأنّ أصدقاء الرئيس الروسي أو المتحمّسين له، لا سيما في منطقتنا، يسيئون فهمه أكثر ممّا يفعل خصومه. فحين يطالبه المتحمّسون مثلاً بأن تكون لدول “بريكس” عملة موحّدة، يسكب ماءً بارداً على حماستهم. من المبكر التفكير في ذلك يقول، ويضيف: أمامنا الآن فرصة لتطوير الاستفادة من العملات الوطنية والعملات الرقمية لتعزيز التبادلات التجارية بعيداً عن أسر الدولار.
الرجل الذي بات معروفاً عنه أنّه ربّما يتعمّد التأخّر على مواعيده، ويتقن لعبة فرض الانتظار على نظرائه في الاجتماعات والقمم، لا يمانع أن يمارس لعبة الانتظار بنفسه. فإذا كانت هناك مدرسة للصبر الاستراتيجي، فهي مدرسته هو في الانتظار الطويل حتى يحين الوقت المناسب لاتّخاذ قرارات حاسمة. ولأنّه يفهم أنّ الخطوات الجريئة التي يقدم عليها تأتي بتبعات، فهو يعدّ العدّة سلفاً لتوفير ما يلزمه لإدارة تلك المخاطر، سواء كانت عقوبات أو عزلة دبلوماسية.
لقد تمكّنت روسيا من الصمود اقتصادياً بشكل ملحوظ على الرغم من العقوبات الغربية التي فرضت عليها عقب الحرب في أوكرانيا، وذلك بفضل مجموعة من السياسات والاستراتيجيات المدروسة. في مقدَّمها، سعت موسكو إلى تنويع شراكاتها التجارية مع دول مثل الصين والهند، وهو ما ساعدها على الاستمرار في تصدير النفط والغاز على الرغم من العقوبات. في هذا السياق راجعت وزارة الاقتصاد الروسية توقّعاتها لصادرات النفط والغاز لعام 2024، وهما المصدران الرئيسيان لإيرادات الميزانية، بزيادة قدرها 17.4 مليارات دولار مقارنة بالتقديرات السابقة، لتصل إلى 239.7 مليار دولار، وذلك بفضل التوقّعات الأكثر إيجابية للأسعار، وفقاً لوثيقة اطّلعت عليها رويترز. تعكس هذه التوقّعات المحسّنة لقطاع النفط والغاز الروسي الصعوبة التي واجهها الغرب في إلحاق ضرر دائم بالاقتصاد الروسي، على الرغم من العقوبات غير المسبوقة التي شملت تحديد سقف لأسعار النفط وقيوداً على الواردات بسبب الحرب التي تشنّها موسكو في أوكرانيا.
على الصعيد الداخلي، لعب البنك المركزي الروسي دوراً حاسماً في استقرار الاقتصاد عبر رفع أسعار الفائدة للحفاظ على استقرار الروبل والحدّ من التضخّم، الذي بلغ 5.86% في 2023 مع توقّعات بارتفاعه إلى 6.87% في 2024. كما فرض البنك قيوداً على تحويل العملات الأجنبية، وهو ما ساعد على تخفيف تأثير العقوبات على الاقتصاد الروسي. وعزّزت الحكومة الإنتاج المحلّي لتقليل الاعتماد على الواردات، خاصة في القطاعات الحيوية مثل الغذاء والموادّ الأساسية، ورفعت معدّلات الإنفاق العسكري. كما استفادت من توظيف احتياطيات روسيا الكبيرة من العملات الأجنبية والذهب في دعم الاقتصاد خلال الأزمة.
الاستقرار الداخليّ هو الأولويّة
داخلياً، لا أولوية لدى بوتين تسبق الاستقرار والسيطرة، عبر قوّة مركزية حاسمة للدولة وأجهزتها تمنع تكرار الفوضى التي شهدتها روسيا في التسعينيات. فالحفاظ على النظام والاستقرار في روسيا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بقدرته على السيطرة على السلطة.
لأجل ذلك من السهل جدّاً عليه أن يعزو أيّ تحرّك اعتراضي في الداخل، إلى مؤامرة ما يدبّرها حلف الناتو والعواصم الغربية، تحت ستار القيم الليبرالية والديمقراطية. من وجهة نظره، يتجاوز الدفع الغربي نحو هذه القيم مجرّد كونه حملة أيديولوجية وصراع أفكار، بل يراه استراتيجية جيوسياسية ممنهجة تهدف إلى إضعاف روسيا من خلال تعزيز عدم الاستقرار في داخلها وعلى حدودها، كما هو الحال في أوكرانيا وجورجيا.
إلى ذلك تحرّك القومية الروسية المتجذّرة بعمق في التاريخ الإمبراطوري الروسي، الكثير من عقل بوتين. فهو يرى بلاده كحضارة فريدة ذات مسار خاصّ وأمّة تشق طريقها بمعزل عن الضغوط الخارجية. من دون فهم هذا المنحى في “البوتينيّة” يصعب تفسير الكثير من سياساته على المستويين المحلّي والدولي. لا يستخدم بوتين مضامين التجربة التاريخية لأسلافه لإثارة حنين أجوف، بل يعتمدها كأطر استراتيجية تُقرّ في ضوئها خيارات بلاده السياسية والاقتصادية والعسكرية.
في عالمه الذي تسود الواقعية السياسية، لا شيء يعلو فوق مصالح روسيا، سواء كانت تحالفات أو أيديولوجيّات أو قواعد دولية.
هكذا يفكّر بوتين!
كلّ شيء قابل لأن يُتجاوز، في سبيل استتباب السيطرة وصيانة الاستقرار واستعادة القوّة، حتى لو تطلّب الأمر السعي إلى إعادة تشكيل النظام العالمي بأسره.
نديم قطيش