مواجهة “غزّة”: بين “السي آي إيه” والمخابرات المصريّة! – 1

51

بقلم عماد الدين أديب

«أساس ميديا»

العلاقة بين أعلى جهات الأمن في واشنطن والقاهرة هي قصة تاريخية معقّدة ومتشابكة تحتاج إلى فهم عميق للغاية حتى يمكن فهم العلاقة الكبرى والأوسع، وهي علاقة الأمن القومي الأميركي بالأمن القومي المصري.

قال لي اللواء عبد السلام المحجوب رئيس جهاز الخدمة السرّية في المخابرات المصرية وأحد كبار مؤسّسي هذا الجهاز الذي نشأ في آذار 1954 بقرار من مجلس قيادة الثورة: “منذ اليوم الأول لتأسيس هذا الجهاز كنّا ندرك أنّ قائمة الأعداء عندنا في الجهاز كانت وستظلّ هي العداوات مع تل أبيب وواشنطن.

وعندما سألت الرجل الذي عرّف بأنّه أحد أبطال الجهاز في عمليات: رأفت الهجّان، والحفّار، والقبض على هبة سليم، والسفينة أكيلي لاورو، وتهريب ياسر عرفات من الأردن في أيلول 1970: “وهل ظلّ هذا الشعور بالعداء حتى بعد اتفاقيّتَي السلام وكامب ديفيد؟”.

ردّ: “نعم، وسوف يستمرّ حتى قيام الساعة حتى لو أعلن أكبر اتفاق بروتوكول تعاون ثلاثي بين مصر والأميركيين والإسرائيليين”.

وأضاف: سيظلّ الخطر من تل أبيب وواشنطن.

ونعم في هذه المسألة يجب أن نعرف أنّ نشاطات واشنطن وتل أبيب تجاه مصر كانت وما زالت وستظلّ محل رصد ومتابعة دقيقة ودائمة من أهمّ 3 أجهزة أمن ورصد متاحة في مصر: المخابرات العامة، المخابرات العسكرية والاستطلاع، وجهاز أمن الدولة بالداخلية.

ليس سرّاً أنّ هذه الأجهزة كانت وما زالت حتى كتابة هذه السطور تحتوي إدارات مخصّصة لمتابعة النشاط المعادي، من الموساد والشاباك من ناحية، و”السي آي إيه” و”الإف بي آي” من ناحية أخرى.

الحيطة الدائمة من نوايا هذه الأجهزة

مهما كان هناك حوار رسمي أو تفاهم أمنيّ بين هذه الأجهزة والأجهزة الأمنيّة المصرية فهو حوار محسوب بدقّة يتمّ بقدر عظيم من الحذر الشديد. وهو حوار لا يلغي الشعور الدائم بالحيطة من نوايا هذه الأجهزة التي لم تتوقّف في ظروف السلم والحرب، التعاون أو العداء، التوتّر أو التهدئة، عن محاولة اختراق مصر أو النفاذ إلى أجهزتها لرصد وتحليل حقيقة ما يبدو داخل مراكزها لصناعة القرار.

أنشأ عضو مجلس قيادة الثورة الضابط زكريا محيي الدين جهاز المخابرات العامة عام 1954 بحيث يكون جهاز أمن قويّاً لديه القدرة على حماية الأمن القومي المصري من النشاط المعادي ورصد أيّ محاولات للاختراقات ولتوفير المعلومات الدقيقة لصانع القرار حول الأعداء والأصدقاء على حدّ سواء.

يقوم هذا الجهاز بتوفير المعلومة الاستخبارية المتعلّقة بالأمن القومي المصري على الصعيدين الدولي والمحلّي.

يتبع هذا الجهاز بشكل مباشر لرئاسة وسلطة رئيس الجمهورية. ويعمل كهيئة مستقلّة طبقاً للقانون رقم 100 لسنة 1971 الصادر في عهد الرئيس أنور السادات رحمه الله وتعديلاته.

على مرّ السنوات أصبحت لدى هذا الجهاز مسؤولية إدارة عدّة ملفّات خارجية ذات حسابات خاصة، مثل الملفّ الفلسطيني الإسرائيلي، الأمن في السودان، الأمن في ليبيا، أمن البحر الأحمر، الأمن المائي لمصر، الجانب الأمنيّ في ملفّات التسليح المصري.

في أعقاب أحداث عام 2011 تحمّل هذا الجهاز بشقّيه العامّ والعسكري مسؤولية إدارة كلّ ملفّات الأمن الداخلي في البلاد، وكانت المسؤولية تتركّز في قبضة رجل واحد هو اللواء عبد الفتاح السيسي، رئيس جهاز الاستخبارات الحربية والاستطلاع.

في هذا المنصب وفي هذه الملابسات وفي ظلّ هذه السلطات الاستثنائية انكشفت أمام هذا الرجل أدقّ تفاصيل المؤامرات والتحرّكات الداخلية للبلاد والعباد في زمن ثورة شعب وحركة جيش.

23 جهاز أجنبي… في ميدان التحرير

في ميدان التحرير وحده كان هناك نشاط استخباري خارجي مؤثّر لأكثر من 23 جهاز استخبارات أجنبي، أهمّها الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، تتحرّك بقوّة في مجالات التمويل والتجنيد والتنظيم والدعم والتحريك لقوى شبابية لإسقاط سلطة ومؤسّسات الحكم المصري.

كانت دورات التدريب تتمّ منذ عام 2004 في واشنطن وصربيا وبيروت تحت فلسفة “الفوضى المنظّمة” التي أطلقتها الدكتورة كوندوليزا رايس وتمّ تطبيق وصايا المفكّر الفوضوي جين شارب الذي لديه برنامج تعليمي تفصيلي لإثارة الثورات الجماهيرية تمّ تطبيقه بشكل ناجح في الثورة البرتقالية في أوكرانيا.

كلّ هذه التفاصيل وصلت بالصوت والصورة والوثائق والأفعال تحت سمع وبصر جهازَي الاستخبارات الحربية والعامة، وأصبح تقويم نشاط جهاز استخبارات “السي آي إيه” باعتباره جهازاً خطراً ومعادياً للأمن القومي المصري أمراً غير قابل للشكّ والجدل.

3 حقائق حول C.I.A.

إشكالية التعامل المصريّ مع مثل هذا الجهاز أنّه يمثّل 3 حقائق أساسية:

1- الاستخبارات الأميركية هي حقيقة واقعة في المجتمع الاستخباري العالمي. وتضمّ في تشكيلها أكبر شبكة من العملاء في العالم، ولديها أكبر موازنة ماليّة في الدعم والتمويل. وتتوافر لها أكبر أنظمة تجسّس إلكترونية وأعقد وسائل للرصد والاختراق التكنولوجي.

لذلك كلّه أصبح من الواقعية والحكمة محاولة تجنّب رفع حالات المواجهة معها، والمحاولة الذكية في التعاون مع واشنطن بما لا يغيّر استقلالية الأمن القومي الوطني لمصر.

2- إنّ جهاز “السي آي إيه” هو ممثّل لدولة محورية في علاقات مصر في مجالات التسليح والدعم الاقتصادي والتعاون الإقليمي السياسي منذ توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل بضمانة ورعاية وتوقيع الولايات المتحدة الأميركية.

3- على الرغم ممّا سبق فإنّ التعامل مع أنشطة هذا الجهاز يجب أن يتمّ بأعلى قدر من الحذر والتدقيق. لأنّ التجربة العملية التي لا تقبل الشكّ تجعل القاهرة تصنّف “السي آي إيه” على أنّه جهاز أمنيّ شديد الأهمّية وأيضاً شديد الخطورة على سلامة وأمن البلاد.

منذ تأسيس جهاز الاستخبارات العامة المصرية تولّى منصب رئاسته 21 رئيساً كلّهم بدءاً من زكريا محيي الدين عام 1954 حتى آخرهم اللواء عباس كامل ذوو خلفيّة عسكرية ومعظمهم خدم في جهاز الاستخبارات العسكرية.

كلّ رؤساء هذا الجهاز على مرّ تاريخه البالغ أكثر من 70 عاماً كانوا يؤمنون بتصنيف جهاز “السي آي إيه” بأنّه الجهاز الخارجي للدولة الأهمّ في العالم وأيضاً الجهاز ذو النشاط الأخطر على أمن مصر.

عقيدة مثلّث أجهزة الأمن العامة والعسكرية وأمن الدولة لم تتزحزح قيد أنملة منذ عام 1954 حتى الآن. وهي أنّ الأمن القومي لمصر يخضع فقط لمصالح شعبها، وأنّ الأمن القومي للبلاد يعلو ولا يعلى عليه، وأنّ السيادة الوطنية للبلاد والعباد تستلزم بالضرورة حماية مصر من أيّ عمليات رصد أو اختراق أو نشاط معادٍ من أيّ جهاز استخباري كائناً ما كان.

أبرز خطوط التواصل بين أجهزة البلدين

في ملفّات معيّنة كانت هناك خطوط اتّصال بين القاهرة وواشنطن. مثال:

1- مواجهة إرهاب حركات وتنظيمات مثل القاعدة وداعش أو أيّ من الجماعات الإرهابية ذات الصلة.

2- الدور المصري المؤثّر في الوساطة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.

لقد نجحت جهود جهاز المخابرات المصرية في إيقاف أكثر من 7 صراعات دموية بين البلدين وتنفيذ هدن متعدّدة وتبادل رهائن وإدخال مساعدات إنسانية.

هنا يبرز السؤال: ما الذي يجعل لدى المصريين القدرة أكثر من غيرهم على النجاح في هذه الوساطة؟

باختصار يمكن القول إنّها حزمة كبيرة من الأسباب يمكن تحديدها على النحو التالي:

– أوّلاً: العلاقة التاريخية بين مصر وفلسطين.

يتبع غداً

عماد الدين أديب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.