قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

15

بقلم عبادة اللدن

«اساس ميديا»

تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن يدخل دونالد ترامب البيت الأبيض من جديد.

 استبق التحرّك فوز ترامب بانتخابات الرئاسة وهيمنة الجمهوريين على مجلسَي الشيوخ والنواب، فكان انعقاد أولى جلسات “التحالف العالمي لتنفيذ حلّ الدولتين” في الرياض قبل أسبوع من الانتخابات الأميركية بمشاركة 90 دولة، تلتها الدعوة إلى القمّة العربية الإسلامية غير الاعتيادية التي انعقدت في الرياض في 11 الجاري.

تحت الخيمة السعودية العالية، أدان الموقف العربي الإسلامي الموحّد “العدوان” الإسرائيلي، ودعا إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة ولبنان، وحذّر من “انتهاك” سيادة العراق وسوريا وإيران، وانتقد “تخاذل الشرعية الدولية”. وأتى خطاب وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بعبارات أشدّ، حين أدان “الإبادة الجماعية” المرتكبة من قبل إسرائيل في غزة. وكان أساسيّاً أن يدعو إلى “احترام سيادة إيران والامتناع عن مهاجمة أراضيها”.

دقة السقف السياسي

ليس في الموقف السعودي جديد من حيث الأدبيات والجوهر، لكنّ حجم التحرّك ومضمون البيان الختامي للقمّة الاستثنائية يعنيان أنّ السعودية تلقي بأوراق ثقلها لتوحيد الموقف العربي والإسلامي تحت سقف سياسي مرسوم بدقة، بحيث يجمع تحت مظلّته القوى الإقليمية، ولا يستطيع المجتمع الدولي تجاوزه. ومن يعرف حجم ثقل السعودية في السياسة الدولية يدرك معنى أن تقود المملكة توحيد موقف عربي إسلامي يضمّ كلّ القوى المتباينة من محاور وقوميّات ومذاهب مختلفة.

المفارقة أنّ إيران وجدت في هذا التحرّك سقفاً حامياً في لحظةٍ عسكرية وسياسية دقيقة، توشك فيها إسرائيل أن تفرض معادلات جديدة، فيما ينذر ترامب بقائمة طويلة من الوعيد لطهران. لكنّ إيران ليست وحدها التي تستشعر القلق من اليوم التالي. فاللحظة هي لحظة اختلال في الموازين العسكرية، مشفوعة بعودة الرئيس الأميركي الذي قام في ولايته السابقة بنقل سفارة بلاده إلى القدس واعترف بضمّ الجولان وقدّم “صفقة القرن” حلّاً نهائياً يقضي على حلم الدولة الفلسطينية.

لذلك كان لا بدّ في هذه اللحظة من رسم خطّ فاصل يفرّق بين ما هو في عداد مصالح إيران ونفوذها وما هو من الثوابت العربية – الإسلامية التي لا يمكن تجاوزها، وأوّلها الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية.

لبست القضية الفلسطينية أثواباً عديدة منذ ما قبل قيام دولة “إسرائيل”، كان كلّ منها لبوساً لصراعات عربية – عربية، بقدر ما كانت لبوساً لمواجهة الاحتلال.

كانت سرديّة “السلاح الفاسد” في حرب النكبة المقولة التي منحت الضبّاط الأحرار شريعة الانقلاب على حكم الملكية في مصر. وباسم القضية الأمّ وسّع جمال عبد الناصر دائرة نفوذه وحروبه من المحيط إلى الخليج، إلى أن غرق في الوحول اليمنية، ثمّ أتته الضربة القاصمة في نكسة 1967. صعدت بعد ذلك منظّمة التحرير ممثّلاً شرعياً للشعب الفلسطيني، لكنّها سرعان ما غرقت في مواجهة مع الأردن، ثمّ في حرب أهلية لبنانية وصراع مع حافظ الأسد، إلى أن تلقّت الضربة القاصمة في 1982. ثمّ أتى دور الثورة الخمينية لتطرّز للقضيّة لباساً مختلفاً، بميليشياته، وشعاراته (الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل)، ومناسباته (يوم القدس العالمي). ولا غرابة في أن يحمل ذراعها التوسّعي العسكري الخارجي اسم “فيلق القدس”.

مفترق طرق حاسم

طال زمن الثوب الإيراني للقضيّة كثيراً، حتى بلغ أشدّه وبلغ أربعين سنة ونيّف، حتى صار شاعر القضية المحدث تميم البرغوثي وريثاً لمحمود درويش. وكادت صورة السيد حسن نصرالله أن تكون بديلاً لصورة ياسر عرفات.

قادت حدّة الصراع الإقليمي إلى كثير من الاشتباه بين القضية وثوبها الإيراني، بكلّ وجوهه السياسية والعسكرية والثقافية والرمزية، فامتدّ الصراع من الثوب إلى القضية نفسها، وأمسكت إيران بالراية التي تركها الآخرون لها، زهداً أو اشتباهاً.

قد تكون القضية الفلسطينية أمام مفترق طرق اليوم. انتهت مرحلة استمرّت عقدين من الزمان كان فيها للفلسطيني سلاح منظّم، سمّه مقاومة أو ميليشيا أو ما شئت، على أرضه، لا في الأردن، ولا في لبنان، ولا تحت لافتة سمّاها حافظ الأسد “جيش التحرير الشعبي”. وربّما يضطرّ “الحزب” أخيراً إلى تطبيق القرار 1701، بما يعنيه من التخلّي عن ورقة “التماسّ الاستراتيجي” بين إيران وإسرائيل.

أسقطت حربا غزة ولبنان مقولة حملها الوعي الجمعي العربي على مدى عقدين، مفادها أنّ إسرائيل مرتدعة، وأنّ الميليشيات المرتبطة بإيران لا تُهزم، وأنّ زمن القوّة الإسرائيلية المطلقة انتهى إلى غير رجعة. لم يعد الأمر رهناً بالميدان، كما يسوَّق للجمهور اللبناني. لقد سقطت صورة القوّة الموازية للقوّة الإسرائيلية، وسقطت قوّة الخطاب. تعادل لحظة اغتيال قيادتَي “الحزب” و”حماس” في الوعي صورة عبد الناصر مكفكفاً دمعه، ومعلناً التنحّي. ليس مهمّاً أنّه تراجع بعد ذلك، فما بقي هي صورة نكسة الثوب الناصري للقضية إلى حين قيادة الرئيس السادات حرب 73 ونجاحه في تحرير الأراضي المصرية المحتلة.

هذا هو لبّ إشكال “اليوم التالي” للحرب اليوم. إنّه إشكال اليوم التالي لسقوط الثوب الإيراني، بعد فقدانه إيمان الناس بقدرته واقتداره، بغضّ النظر عن مدى الثقة بنواياه.

في لحظة كهذه لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو برنامجه لضمّ المستوطنات في الضفة الغربية، بل والضفّة كلّها، وتثبيت احتلال قطاع غزة، وربّما عودة الاستيطان إليه، وشطب فكرة إقامة الدولة الفلسطينية. ويتراءى أنّ وجود ترامب في البيت الأبيض فرصة لا تتكرّر.

لكنّه خطرٌ كبيرٌ أن تعمّم فكرة سقوط القضية بسقوط الثوب الإيراني، ولذلك القيادة السعودية لتوحيد الموقف العربي – الإسلامي في الساحة الدولية لا بدّ منها في هذا التوقيت، أقلّه لئلّا يصبح سقوط الثوب الإيراني معادلاً لتصفية القضية، ولئلّا تظلّ مجالات الاستثمار في القضية مفتوحة على اتّجاهات شتّى، ما دامت القضيّة نفسها ستبقى قضية محرّكة ومحفّزة ومؤطِّرة.

عبادة اللدن

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.