قمّة البحرين: فلسطين هي الحلّ

70

بقلم أمين قمورية

«أساس ميديا»

قمّة عربية جديدة تلتئم في البحرين على وقع الانهيارات والأزمات المستفحلة من أقصى المغرب العربي إلى مشرقه، وربّما أخطرها حرب الإبادة الإسرائيلية الجارية بلا انقطاع على أرض فلسطين، التي من أجل قضيّتها انبثقت جامعة الدول العربية وخرجت إلى النور.

على طاولة القمّة ملفّات سياسية متراكمة منذ سنين وسنين عن أزمات تستفحل وتشتدّ خطورة بلا حلّ أو أفق، بدءاً من ملفّ فلسطين المنكوبة وقدسها المستباحة، إلى الجرح العميق الذي مزّق سوريا “قلب العروبة النابض” ووزّع أراضيها جوائز ترضية على الجيران والغرباء، وجعل أهلها مهاجرين وأعباء ثقيلة على أنفسهم والمضيفين، إلى السودان الذي بعد شطره إلى شطرين يواصل مسيرة التجزئة والتفتيت على نار الحروب والمجاعة والبشاعات، إلى اليمن المقسّم والمزنّر بالألغام والمفخّخات، إلى ليبيا وحروبها الأهلية التي تخبو حيناً وتشتعل أحياناً، إلى بقيّة أقطار الخريطة العربية الغارقة في لجج الأزمات السياسية والاقتصادية والتصحّر البيئي والثقافي والعلمي وانتهاك حقوق الإنسان، إلى الأمن القومي المشترك الذي خُلعت بوّاباته من الشرق والشمال، بينما مفاصله والممرّات الجنوبية والغربية التي كانت تشكّل مع الموقع الاستراتيجي ومصادر الطاقة أبرز أركان القوّة العربية، غزتها الأساطيل والقواعد الأجنبية، وحوّلتها “مخانق”. وإذ تكفّلت إسرائيل بقتل الفلسطينيين، فإنّ عرباً آخرين تكفّل بعضهم بقتل البعض الآخر حيناً باسم المذهبية والطائفية وأحياناً باسم القبلية أو العشائرية ودائماً في حروب بالوكالة خدمة لآخرين.

على الطاولة أيضاً، تطلّعات محلّية لدول حافظت على استقرارها النسبي نحو مشاريع اقتصادية وتنموية منتجة لمرحلة ما بعد النفط والاتّكاء على ريعه كمصدر وحيد للناتج القومي، وطموحات لحجز مكانة لها في مجال التكنولوجيا المالية والابتكار والتحوّل الرقمي والذكاء الاصطناعي، لكنّ هذه التطلّعات الطموحة على أهمّيتها تبقى مهدّدة في إقليم متوتّر يغطّ على الصفيح الساخن للتنافس الدولي على النفوذ والصراع الإقليمي المحموم وتوق بعض الدول إلى المكانة النووية وامتلاك القوّة، الأمر الذي يؤجّج السباق إلى التسلّح ويفرغ الصناديق السيادية المخصّصة للأجيال المقبلة من ثرواتها.

لماذا وصلنا إلى هنا؟

كلّ المواضيع والمسائل المدرجة على جدول القمّة سبق أن جرى التطرّق إليها، حتى باتت بيانات القمم المتعاقبة نسخاً بعضها طبق الأصل لبعض. لا تغيّر في الواقع ولا تجد حلّاً لأيّ إشكال أو قضية. الموضوع الأساس الذي كان يتعيّن، على أيّ قمّة عربية، أن تجعله بنداً وحيداً للنقاش والدراسة والبحث الجدّي. هو البند الوحيد الذي لا يريد أحدٌ طرحه لا على مستوى القادة ولا على مستوى صنّاع السياسة والقرار. وهو السؤال الذي يتبادر إلى ذهن أيّ مواطن عربي عاديّ: لماذا وصلنا إلى هذا الدرك؟ ولماذا استبدّت بنا الأزمات إلى هذه الدرجة ونقلتنا من وضعية ما يُفترض بنا أن نكونه. أي قوة عالمية كبرى يحسب لها ألف حساب في الميزان الاستراتيجي الدولي. نظراً إلى ما نملكه من طاقات وقدرات وموارد وإمكانات لا حصر لها، إلى أن نكون قوّة هامشية يسهل احتقارها والتلاعب بمصيرها والفتك بشعوبها على غرار ما يحدث الآن؟ هذا السؤال بشقّيه يستتبع سؤالاً آخر تلقائياً: هل يمكن وقف هذا الانهيار؟ وكيف؟

عناوين كثيرة أُعطيت أسباباً للحال الذي نحن فيه من مثل الاستعمار القديم، الاستعمار الجديد، الأطماع الخارجية، الرجعية العربية، الأنظمة الاستبدادية، عسكرية كانت أم دينية، ثورات التغيير والثورات المضادّة، فشل الأنظمة القومية، فشل الدولة القطرية، التعصّب والمذهبية، الأصولية على أنواعها، اللاجئين والنازحين، الحروب المتنقّلة، غياب الرؤية والحوكمة الصحيحة.

فلسطين هي الحلّ

إذا نظرنا في كلّ هذه العناوين لوجدنا أنّ فلسطين تقيم في صميم كلّ منها، وهي القاسم المشترك بينها. بعد نكبتها انهارت أنظمة وُصفت بأنّها رجعية وقامت أنظمة وصفت نفسها بأنّها تقدّمية وتحرّرية. لكنّها في الحقيقة كانت عسكرية توتاليتارية قمعت الحرّيات وخنقت الأصوات المعارضة وتحوّلت إلى منظومات فساد تأكل أخضر بلدانها واليباب. باسم محاربة الاستعمار حاربت التحديث والحداثة والانفتاح على الآخر وخوّنت الديمقراطية والانتقال السلمي للسلطة. بعد سلسلة من الحروب الفاشلة التي انتهت بالهزائم، لم تعد هذه الأنظمة تريد أن تحارب ولا تريد أن تسمح لمعارضيها بالمقاومة.

اتّكأت على التفاوض لتحصيل مكاسب، لكنّ عدوّها الأساسي لم يشعر بأيّ ضغط جدّي في المفاوضات يرغمه على تقديم تنازلات. بل وجد فيها فرصة لمزيد من القضم والاستيطان. والفلسطينيون الذين أصرّوا على حرّية قرارهم، وأنّ التحرير حكر عليهم. تحوّلوا أيضاً بعد أوسلو من ثورة لها مكانتها في العالم إلى نظام عربي رسمي. والعرب عندما أكّدوا حرصهم على استقلالية القرار الفلسطيني لم يكن ذلك بدافع تحرير القرار الفلسطيني من التأثير العربي، إنّما لتحرير أنفسهم وأنظمتهم من المشاركة في تحمّل أعباء القضية. وبدل من أن يعملوا يداً واحدة لحلّ أزمة اللاجئين الفلسطينيين حلّاً جذرياً يعيدهم إلى ديارهم. فرّخت هذه الأزمة مشكلات داخلية في دول اللجوء ساهمت في تفجير معركة في الأردن وحرب أهليّة مديدة في لبنان.

في المقابل، عزّز الهروب من القضية الفلسطينية الهويّة القُطرية على حساب الهويّة العربية الجامعة، ومع الانغلاق على الذات القُطرية تعزّز الميل إلى التعريفات الأضيق مثل الطائفة، المذهب، القبيلة، والعشيرة وصولاً إلى العائلة. وهكذا لم تعد قضية الجولان مثلاً، قضية كلّ السوريين والعرب. بل صارت قضية منسيّة تخصّ أهل الجولان وحدهم، وقضية جنوب لبنان ليست قضية الجميع، بل قضية الجنوبيين فقط، ومثلهما قضية لواء الإسكندرون وجزر الخليج. والأنكى ما يجري في غزة اليوم، حيث يحاول البعض اختصار المذبحة الإسرائيلية بأنّها ردّ فعل وحسب على حركة “حماس”. ينتهي بسقوط الحركة، متناسين المسلسل الطويل للاقترافات الإسرائيلية والانعكاسات الخطيرة لهذا العدوان على القضية الفلسطينية برمّتها ومستقبل المنطقة. وإذا كانت بعض الأنظمة جعلت من فلسطين شمّاعة لتبرير ضعف أدائها الاقتصادي والتقصير في واجباتها تجاه مواطنيها وعدم تطوير بناها ومؤسّساتها لانشغالها بالاستنفار الدائم والجهوزية للمعركة، فتلك حجّة ساقطة سلفاً، ذلك أنّ إسرائيل نفسها واجهت هؤلاء مجتمعين. وأنشأت اقتصاداً متيناً ومؤسّسات علمية وعزّزت استقلالية محاكمها وأقامت ديمقراطية خاصة بيهودها. صحيح أنّ للدعم الأميركي والأوروبي فضلاً في هذا الرخاء. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ هناك مالاً عربيّاً وفيراً يكفي لتنمية عربية واسعة.

التجاهل العربي لقضية فلسطين لم يعزّز اقتصادات الدولة التي فضّلت ترك القضية لأهلها، بل صارت هي نفسها عرضة لأزمات أكبر. وأُخذت أيضاً على حين غرّة، وازدادت الاضطرابات فيها استعاراً. وبعدما تُركت فلسطين وحيدة، بات سهلاً أن يُترك العراق وحيداً، وأن تُترك سوريا وليبيا والصومال والسودان واليمن ولبنان لمواجهة أمرهم المرير وحدهم. صارت فواتير الدم والنزيف أكبر بكثير من تلك التي بُذلت من أجل فلسطين. خلت الساحات فاتّخذت التدخّلات الخارجية بعداً أخطر. باسم الدفاع عن القدس المتروكة توسّعت لائحة المتدخّلين، وصاروا هم أهل القضية وبات أصحابها أغراباً عنها. الاستعمار القديم – الجديد لم يرحل، بل اتّخذ أشكالاً جديدة، تارة بالغزو المباشر وتارة بالغزو الثقافي واختراع البدع وتعميق التناقضات الداخلية، دينية كانت أم إثنية. لجوء بعض الدول العربية نحو القُطرية لم يحمِها من التدخّلات، القديم منها أو الجديد. ولن يحميها أيضاً من الارتدادات الصاخبة المحتملة للتصفية المجّانية للقضية الفلسطينية.

كلّ هذه التدخّلات تسقط وكلّ المشهد يتغيّر عندما تعطي الدول العربية مجتمعة الأولوية لفلسطين. قضية العرب الحقيقية هي قضية فلسطين. العودة إلى فلسطين تعيد للعرب تماسكهم وترابطهم، وتالياً تزيدهم قوّة خارجية ومناعة داخلية، وتعطي للجامعة مكانتها بين الكتل العالمية الكبرى. الابتعاد عن فلسطين لم يحرّر العرب ولم يخفّف أزماتهم الداخلية ولم يوفّر الرخاء لشعوبهم، ولم يحسّن مكانتهم بين الدول، لا بل زاد أوضاع الأمّة فداحة. لن يتحرّر العرب ما لم تتحرّر فلسطين. ولن تتحرّر فلسطين من دون أن يتحرّر العرب. الاثنان قضية واحدة لا تنفصم، فهما مسار واحد وصيرورة مترابطة لا تسبق فيها مهمّة المهمّة الأخرى. صمود الفلسطينيين يظهر أنّ إيجاد حلّ لقضيّتهم ممكن. لكنّه وحده لا يكفي لاستعادة فلسطين، ولا بدّ من أن يجتمع الجهدان في اتّجاه واحد. ولا يجوز أن يتحرّر العرب من هذا العبء، فهو أخفّ بكثير من أعبائهم الحالية.

أمين قمورية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.