حين يتمرّد أبناء الموت: أهل غزّة يحبّون الحياة.. وكرة القدم

52

بقلم سامر زريق «أساس ميديا»

في الأسبوع الماضي، غزت شبكات التواصل الاجتماعي صور تظهر احتشاد الجماهير في قطاع غزة لمتابعة مباراة الذهاب في نصف نهائي دوري أبطال أوروبا، بين ريال مدريد الإسباني وبايرن ميونيخ الألماني… المفارقة أنّ هذه الصور التي أسهم جمهور محور الممانعة في ترويجها على نطاق واسع، في دلالة على مدى الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني وحبّه للحياة، تناقض كلّ نمطيّات السواد التي لطالما سعى نظام الملالي الإيراني وحلفاؤه إلى إسباغها على الشعب الفلسطيني وكلّ الشعوب العربية التي أخضعتها ميليشياته، وصولاً إلى تصويرهم بأنّهم “أبناء الموت”. وهذا المصطلح تستخدمه إسرائيل أيضاً لتوصيف كلّ الذين وضعتهم على لائحة القتل. فتغدو ثقافة الموت إذّاك، بكلّ ما يتفرّع عنها، إسقاطاً هويّاتيّاً مشتركاً بين إيران وإسرائيل.

كان إعلام محور الممانعة أمعن في تتفيه كرة القدم، وتوبيخ الجماهير العربية والإسلامية، بسبب متابعتها لمباريات كأس آسيا لكرة القدم، التي أقيمت في الدوحة مطلع السنة الحالية. فعمل من خلال الناشطين والمؤثّرين في عوالم شبكات التواصل الاجتماعي على الإفراط في الترويج لنظرية المؤامرة. ووصل به الحال إلى الترويج لصورة رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو على شكل شيطان يفترّ ثغره عن ابتسامة عريضة وهو يرى الجماهير تملأ مدرّجات الملاعب. في تعبير عن مدى نشوته بالنجاح في صرف “أفواج المؤمنين” عن القضية الفلسطينية.

لكن في تعبير عن مدى انفصام هذه الآلة الإعلامية وترويجها للشيء ونقيضه، فإنّها كانت تحتفي في الوقت نفسه بمشاركة المنتخب الفلسطيني في تلك البطولة، التي شكّلت مناسبة شديدة الأهمية لـ”التعبير عن الهويّة الفلسطينية” وفق تصريح صحافي لنائبة الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، سوزان شلبي.

وبالفعل فقد تفاعلت الجماهير العربية بشكل هائل مع منتخب “الفدائي”، حيث ازدانت مدرّجات الملاعب وعوالم شبكات التواصل بالكوفيّة والعلم الفلسطيني، وتصدّرت فلسطين عناوين هذه البطولة. كذلك توحّد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة والشتات خلف منتخبه في صورة أظهرت لحمة شعبية تناقض الانقسام السياسي المزمن.

في المقابل، فإنّ الحركة الصهيونية سعت إلى توظيف كرة القدم ضمن صراعها الهويّاتي مع الشعب الفلسطيني. وحاولت إبراز الهويّة الإسرائيلية على حساب الفلسطينية في البطولات الدولية والإقليمية، التي تقدّم منصّة لا مثيل لها للتعبير عن الهويّات والثقافات. ففازت بكأس آسيا عام 1964. قبل أن تُطرد من العائلة الآسيوية تحت ضغط الدول العربية عام 1974. فذهبت إلى الاتحاد الأوقيانوسيّ، ومنه إلى الاتحاد الأوروبي. وهو ما قوّض من فرصها للظهور في المحافل الدولية بالنظر إلى مدى صعوبة المنافسة في القارّة الأوروبية. وأفسح المجال أمام إبراز الهويّة الفلسطينية.

ليس تتفيه كرة القدم من ابتداع محور الممانعة. لكنّه ينسجم مع التأويلات المتطرّفة لنظام الملالي ونظرته المتشدّدة إلى الهوايات التي تحوّلت إلى صناعات مثل الرياضة والفنّ والأدب، التي تتّسق مع نظرة عدد من التنظيمات الجهادية وتيّارات الإسلام السياسي.

ومن المفارقات في هذا المجال أنّ أبا بكر البغدادي، زعيم تنظيم داعش، كان يلقّب بـ”ميسّي الجهاديين” من قبل رفاقه في سجن “بوكر” الأميركي في العراق، وهو الذي عاد وتفنّن مع فريقه في شنّ أخطر “الهجمات” الإرهابية في المنطقة.

“أشرف الحروب”

ثمّة أدباء ومثقّفون هجوا الكرة واعتبروها مُعادلاً لـ”أفيون الشعوب” وإحدى أدوات الإمبريالية العالمية، وغيرها من النعوت. ومنهم الأديب المصري توفيق الحكيم الذي يختصر موقفه السلبي من الساحرة المستديرة بمقولة: “انتهى عصر القلم، وبدأ عصر القدم”.

في المقابل رموز أدبية كانوا من عشّاق الساحرة المستديرة. أبرزهم الأديب نجيب محفوظ الذي لعب كرة القدم لـ10 سنوات وقال عنها: “لم يأخذني من الكرة سوى الأدب. ولو كنت داومت على ممارستها لربّما أصبحت من نجومها البارزين”، وكان مشجّعاً لنادي الزمالك المصري. في حين أنّ الشاعر أحمد فؤاد نجم كان من مشجّعي النادي الأهلي المصري، ومن روّاد جمهور الدرجة الثالثة “الذي يتكوّن من العمّال والموظّفين، وهم متعة الكرة الحقيقية، وليس الرجال “الشيك” في المقصورة الرئيسية”. ونجم الملقّب بـ”بالفاجومي” هو مؤلّف هتاف “يا أهلي يا حبّي يا حتّة من قلبي”.

أحد أبرز رموز القضية الفلسطينية الشاعر الراحل محمود درويش كان من عشّاق الساحرة المستديرة ووصفها بـ”أشرف الحروب”. وفي كتابه “ذاكرة النسيان” اعتبر درويش كرة القدم “فسحة تنفّس تتيح للوطن المفتّت أن يلتئم حول مشترك ما”. إبّان الحصار الإسرائيلي لبيروت عام 1982، والذي تزامن مع مونديال إسبانيا، طلب درويش من رفاقه أن يقوموا بإيصال التلفزيون ببطارية إحدى السيارات لمتابعة المباريات: “نحن أيضاً يحقّ لنا أن نحبّ كرة القدم”.

عام 1986، وبينما كانت منظمة التحرير لا تزال تلملم جراحها عقب الخروج من بيروت إلى المنفى في تونس عام 1982، ودخول القضية الفلسطينية مذّاك في نفق مظلم أخرجتها منه الانتفاضة عام 1989، كتب محمود درويش عقب فوز الأرجنتين بكأس العالم في العام نفسه: “ماذا نفعل بعدما عاد مارادونا إلى أهله في الأرجنتين؟.. وإلى من سنأنس ونتحمّس بعدما أدمناه شهراً تحوّلنا خلاله من مشاهدين إلى عشّاق؟”. كان درويش من عشّاق فريق ريال مدريد الإسباني، الذي يتمتّع بشعبية جارفة لدى فلسطينيّي الداخل دفعت لتأسيس “رابطة مشجّعي ريال مدريد في فلسطين” في آذار 2015. واعتُمدت رسمياً من إدارة النادي الملقّب بـ”الملكي” في أيلول من العام نفسه. وحظيت بالتكريم من إدارته أكثر من مرّة في الاحتفال السنوي لتكريم روابط “المدريديستا”. وفي إحداها أهدى رئيس النادي فلورنتيون بيريز الرابطة قميصاً كُتب عليه: “ميرنغي فلسطين” تقديراً لجهودها.

رابطة ريال مدريد في فلسطين

من العوامل التي أسهمت في ذلك، إظهار ريال مدريد دعمه للقضية الفلسطينية بأشكال عديدة، وهو ما جعله عرضة لنقد إسرائيلي لاذع اقترب من وصمه بمعاداة السامية. فقد أسّس “الميرينغي” بالتعاون مع “الأونروا” مدارس كروية في غزة والضفة الغربية. وأرسل مدرّبين لتعليم الأطفال أصول الكرة، ولتخريج مدرّبين فلسطينيين.

عام 2016، استضاف “الملكي” الطفل أحمد دوابشة، الناجي الوحيد من عائلته التي أحرقت منزلها مجموعة من المستوطنين، وأصيب وقتها بحروق بالغة. وكرّمه وأتاح له لقاء الأسطورة البرتغالي كريستيانو رونالدو ومشاهدة مباراة في ملعبه “سانتياغو برنابيو”. وأعاد تكرار الأمر عام 2018 مع عهد التميمي التي واجهت بشجاعة مجموعة جنود إسرائيليين وتعرّضت للسجن. فزارت مع عائلتها متحف النادي المرصّع بالكؤوس. وحصلت على قميص للنادي يحمل اسمها، بالإضافة إلى قمصان بأسماء أشقّائها. بالنظر إلى قيمة ريال مدريد كأحد أبرز الأندية في العالم، وشعبيّته الهائلة التي تمتدّ إلى مختلف أقطار الكرة الأرضية، فقد نجحت هذه المناسبات في تسليط الأضواء على القضية الفلسطينية ومعاناة الشعب الفلسطيني، وكسر التضييق الإعلامي الغربي المفروض على كلّ ما يتعلّق بالهويّة الفلسطينية.

تمثّل صور الجماهير في غزة وهي تتابع مباراة ريال مدريد، أو أيّ مباراة كروية، أفضل تأكيد لمدى حبّ الشعب الفلسطيني للحياة، وأنّه ليس كلّ فلسطيني “إرهابياً”، على عكس ما تدّعي الدعاية الصهونية. فهو شعب يليق به الفرح والتشجيع مثل كلّ شعوب الأرض. بيد أنّه يمكن فهم تبرّم ملالي إيران من الكرة وتصنيفها في خانة المؤامرة، حينما نستذكر الصدمة التي أحدثها لاعبو المنتخب الإيراني إبّان كأس العالم في قطر 2022 في أوساط النظام، بتضامنهم مع الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت غداة مقتل الشابّة مهسا أميني، وتفاعلهم مع هتاف الجماهير الحاضرة في الملعب التي وصفت المرشد علي خامنئي بـ”الديكتاتور”. فضلاً عن رشق الجماهير الإيرانية تمثال قاسم سليماني في استاد “نقش جهان” بأصفهان بالعبوات والأحذية.

سامر زريق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.