تلغرام.. فيسبوك.. إكس.. الحرّيّة تأكل أبناءها

39

بقلم نديم قطيش

«أساس ميديا»

تقاطعت ثلاثة أخبار عن عالم التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي الأسبوع الفائت لتشكّل مفصلاً جديداً من مفاصل المعركة المعقّدة والشرسة بين الحكومات وعمالقة التكنولوجيا، ومنعطفاً حادّاً في جدلية العلاقة بين الحرّية والأمن بمفهومه الواسع.

بعد توقيف السلطات الفرنسية الرئيس التنفيذي لمنصّة تلغرام، بافل دوروف، ثمّ الإفراج عنه بكفالة، وتوجيه مضبطة اتّهام طويلة بحقّه بشأن “محتوى جرميّ” ومحادثات متّصلة على منصّته، علّقت المحكمة العليا في البرازيل منصّة X (تويتر سابقاً) التي يملكها إيلون ماسك بسبب عدم امتثالها لمطلب تعيين ممثّل قانوني في البلاد.

تزامنت هذه المواجهات مع رسالة وجّهها مارك زوكربرغ، رئيس شركة “ميتا” المالكة لمنصّات فيسبوك وإنستاغرام وواتس آب وغيرها، إلى لجنة في مجلس النواب الأميركي يعبّر فيها عن أسفه لخضوعه لضغوط مارستها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، لإزالة بعض المحتوى المتعلّق بـ”كوفيد-19″ عام 2021، واصفاً ذلك بأنّه كان “خطأ”.

كما أقرّ زوكربرغ بأنّ “فيسبوك” أخطأت في تغييب تقرير فاضح لصحيفة “نيويورك بوست” يتعلّق بمراسلات إلكترونية بشأن صفقات بين نجل بايدن، هانتر، وشركات صينية وأوكرانية، مستخدماً نفوذ والده حين كان نائباً للرئيس باراك أوباما، بعد إبلاغه من جهاز “إف بي آي” أنّ تقرير الصحيفة قد يكون جزءاً من عملية تضليل معلوماتي تقف وراءها جهات روسية بغية إيذاء بايدن قبل انتخابات 2020!! توضح رسالة زوكربرغ أنّ تحذيرات جهاز “إف بي آي” لم تكن واقعية، لا سيما أنّ جهاز الكمبيوتر المحمول الخاصّ بهانتر بايدن، والذي كان أساس تحقيق الصحيفة، قُبِل كدليل في محاكمته الجنائية.

الديمقراطيّات تقصّ أجنحة الشّركات

يلقي هذا السياق ضوءاً كاشفاً على حجم ومستوى استنفار الحكومات الديمقراطية التي خطا بعضها خطوات غير مسبوقة نحو قصّ أجنحة شركات التواصل الاجتماعي، في محاولةٍ لوضع حدٍّ لعهد حرّية التعبير المطلقة على الإنترنت. ويفضح، هذا السياق أيضاً، التناقض بين تقديس هذه الحكومات لقيم الحرّية والانفتاح الضرورية للحياة الديمقراطية، وبين سعيها الحثيث إلى السيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي بحجّة حماية النظام الاجتماعي والأمن الوطني.

ولأنّ مثل هذا المسعى الحكومي لا يتمّ بغير الرقابة المسبقة والتعقّب والاستحواذ على البيانات الفردية، يبرز ملمح آخر في هذه المعضلة يتعلّق بازدواجية المعايير الغربية بشأن جدلية الحرّية والأمن. فلطالما وجّهت الحكومات الغربية انتقادات حادّة لدول لا تتبنّى النهج الديمقراطي كنظام سياسي، لأنّها فرضت رقابة مسبقة على محتوى وسائل التواصل الاجتماعي، ووصفتها بالاستبداد والقمع، لأنّها سعت إلى تنظيم فضاء التواصل الاجتماعي، بغية حماية أمنها الوطني، تماماً كما تسعى فرنسا الآن أو سعت أميركا من قبل. وفي سياق معركتها مع تنظيمات الإخوان المسلمين والميليشيات الشيعية، أُهملت دعوات هذه الدول لفحص وتدقيق المحتوى المنتج في عواصم غربية والمصمّم لاستهداف استقرارها وأمنها السياسي والاجتماعي، بدعوى حرّية التعبير وتنوّع الرأي السياسي!!

صحيح أنّ فرنسا تعطي الأولوية في قضية تلغرام للمحتوى الجرميّ المتعلّق بالاستغلال الجنسيّ للأطفال، إلّا أنّ بين طيّات المعركة استهدافاً سياسياً مخفيّاً للرؤى السياسية اليمينية المتطرّفة، تماماً كما هو حاصل في البرازيل، وما حف أيضاً بالسجالات حول كوفيد-19 في الولايات المتحدة.

أسئلة عن حدود “التنقية” الحكوميّة

في الحالات الثلاث تعطي الحكومات لنفسها الحقّ في حماية المجتمع ممّا تسمّيه “الأيديولوجيّات الضارّة” التي تنطوي على خطاب كراهية ضدّ المهاجرين أو ضدّ إثنيات محدّدة أو تمييز جندريّ أو عرقيّ، أو تشكيك ولو موضوعيّاً في العلوم الناشئة.. إلخ!

عليه يُطرح السؤال بشأن الحدّ الذي يمكن الوصول إليه في “تنقية” الخطاب السياسي وتعقيمه من دون الإضرار بقيم الحرّية. وفي ما يعنينا يُطرح سؤال أخطر بشأن المعايير التي تحدّد مدى خطر الأفكار على الأمنَين الاجتماعي والسياسي، وعمّا إذا كان يجوز لنا مكافحة الإسلام السياسي مثلاً، من دون التعرّض لدعاية الحرّيات الفردية، بمثل ما تسعى الحكومات الغربية إلى مكافحة اليمين المتطرّف؟!!

الحكومات الغربية التي تبرّر إجراءاتها بحجّة ضرورات الأمن الوطني، وتعيب على الآخرين اتّباعهم المناهج نفسها لحماية مواطنيهم، تفاقم من صورة النفاق السياسي التي بات يراها فيها حلفاؤها، وتزيد من تعقيد العلاقات بين دول صديقة، باتت صداقتها تُمتحن في عصر رقميّ معقّد. فخلال جائحة كوفيد-19 حاولت هذه الحكومات فرض سرديّات وقمع أخرى، لا سيما في فضاء مواقع التواصل الاجتماعي، حتى حين لم تتوافر لها الأدلّة العلمية لدعم توجّهاتها. حينها طبّقت الحكومات والسلطات الصحّية تدابير احترازية بسرعة، مثل الأقنعة الواقية والإغلاقات والتباعد وغيرها، استناداً إلى فرضيات وأنصاف أدلّة، وقمعت من تشكّكوا أو انتقدوا هذه الإجراءات وهمّشتهم واتّهمتهم باللاعقلانية ومعاداة العلم، بحجّة الحدّ من المعلومات المضلِّلة. لم تسهم شيطنة المعارضين في قمع الحوار المشروع فقط، بل عمّقت أيضاً عدم الثقة العامة، وآذت سردية هذه الدول بشأن الديمقراطية نفسها وريادتها كنموذج.

إنّ فكرة أنّ الغرب هو معقل حرّية التعبير المطلقة، ومنصّة التفوّق الأخلاقي الحاسم، أصيبت إصابات قاسية نتيجة الصراع الراهن بين عمالقة التكنولوجيا والحكومات الغربية على تعريف حدود الحرّية، وصلة ذلك بالدساتير ومتطلّبات الأمن الوطني وشروط السلامة العامة.

لا بدّ من تواضع الغرب في ملفّ الحرّيّات

وبالتالي فإنّ ما نحن بإزائه لا يقلّ عن دعوة ملحّة للتواضع بشأن الانتقادات الغربية للدول العربية في ملفّ حرّيات التعبير والحرّيات السياسية. بعد نحو ربع قرن من محاولة تصدير الديمقراطية بقوّة المدفع وما تلاها إبّان الربيع العربي من حماية غربية لأكثر أفكار الإسلام السياسي نتانة بحجّة تعدّد الرأي السياسي، لا بدّ من التواضع أمام الخصوصيّات المجتمعية والسياقات التاريخية لكلّ دولة وتجربة، وإسقاط الافتراضات الساذجة أنّ مقاساً سياسياً واحداً يناسب الجميع. والأهمّ هو إسقاط تعبيرات التفوّق الأخلاقي والقيمي في القضايا التي تتعلّق بسيادة الدول وحقّها في أن تحكم نفسها وفق منظومة قيم سياسية واجتماعية برهنت أنّها قادرة بها على حماية مواطنيها وتوفير سبل الكرامة والرفاه لهم.

تثبت الإجراءات الأخيرة في البرازيل وفرنسا وقبلها أميركا أنّه لا يوجد مجتمع في العالم بمنأى عن ضرورة المصالحة بين عمومية المعايير العالمية المتعلّقة بحوكمة الإنترنت وحرّية التعبير وبين خصوصية السياقات المحلّية لكلّ مجتمع ودولة ونظام سياسي. إنّ تجاوز الثنائية التبسيطية بين الحرّية والقمع، مدخل أساس للاعتراف بالحقائق المعقّدة التي تواجهها الدول المختلفة في العصر الرقميّ.

نديم قطيش

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.