تاريخٌ لم يعد يتطوّر – 1

11

بقلم الفضل شلق

أدت الفتوحات العربية في القرنين السابع والثامن الميلاديين إلى نشوء ثقافة عربية في المجال العربي الإسلامي الممتد من شواطئ المحيط الأطلسي إلى حدود الصين. انتشر الإسلام بعدها في مناطق أخرى من الهند وآسيا الشرقية، بما فيها أندونيسيا الأكثر تعدادا سكانياً من أي بلد آخر سواء كان عربياً أو إسلامياً. يُشكّل العرب الآن في جميع أقطارهم، المسلمون منهم، حوالي ثلث مسلمي العالم. وهم أصحاب جغرافيا تُشكّل 10% من مساحة العالم، و5% من سكانه.

لم يكن انتشار العروبة أو الإسلام بالفتح والغلبة دوماً بل بالثقافة، التي اعتمد توسعها في كثير من الأحيان على اللغة العربية، وعلى انتشار اللغة العربية كلغة القرآن والدين. الذين صارت العربية لديهم لغة محكية إضافة إلى كونها لغة الدين هم الذين يسمون عرباً، وإن كان الانتماء بالوعي أو بفعل ظروف مادية عسكرية أو سياسية فرضت نفسها.

المهم أن اللغة العربية صارت هي “اللينغوا” (اللغة العليا) في المجال الحضاري الإسلامي كله. وقد امتدت أثارها الثقافية عند الازدهار الثقافي إلى أنحاء من العالم غير إسلامية، مما يؤكد أن النهضة الأوروبية في القرون الوسطى ما كانت ممكنة لولا الترجمة عن اللغة العربية. ازدهرت الثقافة العربية الإسلامية من قبل عن طريق الترجمات من حضارات أخرى كالأغريق، والهند، والصين، وغيرها، والعالم كان وما يزال موحداً أكثر مما يظن الباحثون الذين قال أحدهم (جون كامبل في مطلع كتابه “أقنعة الله”) أن العالم سيمفونية واحدة تتألف من أنغام متعددة؛ فانتشار الثقافة العربية ثم العربية-الإسلامية لم يكن عسكرياً، وما الغلبة العسكرية إلا في فترات محدودة، بل كان في معظم الأحيان عن طريق التجارة وتماس الشعوب ببعضها البعض، والأخذ من الآخرين.

التجارة والثقافة

ما من أحد يستطيع القول إن الثقافة العربية الإسلامية وليدة نفسها أو كانت مجتمعاً أو مجتمعات مغلقة، إلا وكان مخطئاً. وما يسمى الآن إدعاءات أوروبية عن مركزية ثقافتها ما كان موجوداً من قبل إلا في حالات نادرة، ليس هنا مجال البحث فيها. فالمركزية الثقافية الأوروبية التي انضمت إليها الولايات المتحدة الأميركية ما كانت إلا أداة استعمارية. إذ سادت في وقت سادت أوروبا على العالم، وحملت لواء الثقافة العالمية بالتقدم العلمي، واعتبرت أن مهمتها تنمية العالم، أو نقله من حال البربرية إلى المدنية بالقوة؛ ففي معظم مراحل التاريخ، بهذه المقاييس، كانت أوروبا هي البربرية، وانقلبت الحال مع الاستعمار الذي حدث معظمه بعد الثورة الصناعية في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. قبل ذلك كانت الفتوحات الأوروبية منذ القرن السادس عشر، و”اكتشافهم” العبور إلى آسيا بالمرور حول رأس الرجاء الصالح في آخر القرن السادس عشر، وبداية عنف ندر إن كان مسبوقاً. فقد اضطرت أوروبا إلى استخدام العنف في التبادل التجاري لأنه لم يكن لديها، بسبب تأخرها الاقتصادي، شيئاً تبيعه من أجل التبادل التجاري. قبل ذلك كانت تجارة المحيط الهندي سلمية في معظم الأحيان. لكن ما سهّل تجارة أوروبا مع آسيا كان تدفق الذهب والفضة من أميركا الوسطى والجنوبية، وبخاصة البيرو، وكانت هذه القارة قد اكتشفها الأوروبيون في نفس الوقت الذي اكتشفوا فيه آسيا. وتأسست شركات الهند الشرقية وشركة الهند الغربية للتجارة. وفي نفس الوقت تأسست شركة “اللافنت” (أي شرق المتوسط)، والأرجح أن الأرباح من هذه كانت إلى وقت ما أكثر من أرباح شركات الهند الشرقية.

في المحصلة كانت سفن أوروبا تأتي إلى آسيا محملة بالسلاح والحجارة لتثقيلها، وبالرهبان كي يجمع هؤلاء ما أمكن من التراث الثقافي عند الشرق، وللهداية طبعاً للدين القديم في نظرهم. المهم أن التجارة، وما يحدث خلالها من تبادل ثقافي، كانت تمهيداً لعلاقة استعمارية لم تتحقق فعلاً إلا في القرن الثامن عشر بعد الثورة الصناعية. وقبل ذلك وبعده القضاء على صناعات آسيا. على كل حال، كان استهلاك الصين من الفحم الحجري للصناعة يفوق استهلاك أوروبا منه حتى بعد الثورة الصناعية. والقضاء على اقتصاد آسيا لم يحصل بالتبادل التجاري الصرف، بل بالقسر والإكراه واستخدام وسائل العنف التي صارت هي جوهر الاستعمار في القرن التاسع عشر. لم يكن إرهاق الدولة العثمانية ومصر بالديون إلا احدى وسائل العنف. إذ تطلب سداد الدين العام لجاناً مكونة من ممثلي دول أوروبا للإشراف على الاقتصاد المحلي، وإفراغه من مقوماته الصناعية والزراعية. وما صارت التجارة الحرة مبدأً عالمياً إلا مع تفوّق أوروبا في القرن التاسع عشر لاستكمال فتح أسواق آسيا لها.

نظرية الانحطاط التاريخي

إن كتابة تاريخ التجارة الدولية والمحلية أهون بكثير من كتابة تاريخ التبادل الثقافي. وعلى كل حال، إن من حاول تحديد بداية عصر الانحطاط بثورة الزنج في أواخر القرن التاسع الميلادي، أو مع الحملات الصليبية، أو حملات المغول التي أدت إلى خراب بغداد والمنطقة، يُخطئ. إذ لا يأخذ بالاعتبار الازدهار، أو على الأقل التقدم الثقافي في العلوم المادية والرياضيات وغيرهما. ما يعني أن نظرية الانحطاط ليست فقط مُجحفة بحق تاريخنا، بل هي ذات آثار مخربة وتدميرية في وعينا، إذ تؤدي إلى حذف ألف عام من تاريخنا، مما يقود إلى خلل في الوعي التاريخي الذي يتهاوى عندما لا يكون سلسلة متصلة أو عندما تُحذف منه حلقة مهما كانت صغيرة أو كبيرة. في هذه الفترة صار الانتقال إلى العربية كلفة محكية، وذلك على الأقل في بدايتها. وهذا معناه صيروة أكثرية الناس إلى تبني العروبة التي هي تتعلّق باللغة أكثر من الأصول الإثنية. فالعروبة صيرورة وجود وليست اجتماع الجماعة في أصل إثني. نظرية العروبة تنفي الصيرورة أو تحيلها إلى عكس ما يجب أن تكون، وتشلّع التاريخ، مما يؤدي إلى تشليع الوعي والشخصية لحاملي هذا الوعي.

يتبع غداً

الفضل شلق

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.