بقلم علي معروف – حقبة جديدة من الحرب نحو المعنى

21

واهم من يعتقد أنّ ما يحدث في غزة اليوم شأن محلي، ذو علاقة ببقعة جغرافية ضيّقة، أو مجرّد أحداث عابرة لا امتداد لها في المستقبل. إنّ ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني من إبادة وتطهير، على مرأى ومشهد من العالم الذي يقف عاجزاً عن التدخل، يدعونا الى وقفة تأمل، لاستجلاء المعاني الكبرى لحقيقة الصراع الدائر اليوم بين شعب أعزل متشبّث بحقه في البقاء والوجود، و «دولة» متمادية في الإصرار على حرمانه من هذا الحق.

ليس من السهل التفكير في المعاني الكبرى التي تمكّن العقل من النفاذ الى صورة واقع آخر غير واقع التفاصيل اليومية الدامية، وأعداد الضحايا الأبرياء الذين فاقوا الاربعين ألفاً وهم يسقطون على مدار الساعة في غزة وحتى في الضفة الغربية. والحاصل ان الصراع في جوهره هو صراع حول المعنى، لا يجمع بين الفلسطينيين والاسرائيليين فحسب، كما يبدو في الظاهر، بقدر ما يجمع بين منظومتين ثقافيتين فكريتين، تستقل كل واحدة منهما بنظرة خاصة الى القوة والوجود.

وليست فلسطين وليست «إسرائيل» المغتصبة، عند التحقيق سوى رؤوس حربة في الصراع حول المعنى بين عالمين متنافرين.

وتحاول إسرائيل منذ نشأتها، أن تبني شرعية وجودها على عنصرين اثنين: التاريخ والثقافة الغربية الحديثة. هذه الثقافة تبرّر الاستعمار وتسوّغه. هذا في مقابل المجتمع الفلسطيني الذي يستمد شرعيّة حقه في الوجود من الارض. وفلسطين على خلاف إسرائيل لست سردية تاريخية يتداعى لها القوم من أطراف الارض، أو فكرة تُـحمل على ظهر القوة المادية الحديثة، بل ان فلسطين شعب يعيش فوق أرض: شعب قوّض بوجوده المعنى الأساس الذي اولت الثقافة الاستعمارية أن تبني عليه شرعية قيام «الكيان الاسرائيلي الغاصب».

إنّ للصراع «الاسرائيلي» – الفلسطيني تجلّيات في عالم المعاني. فإذا كان هذا الصراع يتخذ شكلاً مسلحاً صريحاً، فإنه يتخذ أشكالاً رمزية وثقافية. ومن المعلوم انه كلما زادت الشعوب غرقاً في هذه العوالم المجرّدة، سَهُل اجتثاثها من بيئتها الثقافية، وسهل الزجّ بها في منظومة اقتصادية مالية. ويمكن القول: إنّ غزة اليوم تمثّل آخر معقل من معاقل صمود العالمين العربي والاسلامي في وجه منظومة أخرى، ترى التوسّع الجغرافي قدراً محتوماً ومسؤولية عليها الواجب الاخلاقي الديني.

بعد غزة سيكون العالم العربي والاسلامي مُجبراً على خوض حرب من أشرس حروب المعنى لاسترداد حُسن الانتماء الى الارض.

فليس غريباً -والحالة هذه- أن تجد إسرائيل سنداً لها في أميركا فتستعلي بدورها جغرافياً على شعوب المنطقة، مصرّحة بأنها ذات هوية غربية وليست شرقية.

هذا هو جوهر ما سعى «برنارد لويس» وأتباعه، الى تثبيته في المخيّلة الغربية، فلا يجد لويس أدنى حرج في دعوته العالمين العربي والاسلامي الى تخليص ثقافتيهما من حسن الارتباط بالارض، كشرط لولوج زمن الحداثة الغربية.

وخير دليل على ما أقول، ما يقوم به المستوطنون الاسرائيليون، ومن يقف وراءهم من المتشددين حرباً على الفلاح الفلسطيني البسيط، فتجدهم يقتلعون أشجار زيتونه، ويهدمون مقومات وجوده. ونجد في هذا السلوك دليلاً على عمق أزمة إسرائيل الوجودية.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.