السّيستاني لإيران: السّلاح بيد الدّولة فقط

38

بقلم حسن فحص

«أساس ميديا»

لم يخرج الكلام الصادر عن المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف عن الإطار المحدّد لمواقفها في ما يتعلّق بالأوضاع الداخلية العراقية والتحدّيات التي يواجهها هذا البلد منذ التغيير الذي حصل في عام 2003. لكنّ جديده هو دعوته إلى “حصر السلاح بيد الدولة” في العراق، وترحيب “الإطار التنسيقي”، في ما يبدو أنّه ابتعاد عن إيران.

تمحورت المواقف التي أدلى بها المرجع السيّد علي السيستاني خلال استقباله محمد الحسان، ممثّل الأمين العامّ للأمم المتحدة ورئيس بعثتها في العراق “يونامي”، والوفد المرافق له، حول التحدّيات الكبيرة التي يواجهها العراق في الوقت الحاضر، وما يعانيه العراقيون على أكثر من صعيد.

دعا السيستاني العراقيين بمختلف مستوياتهم السياسية والنخبوية والشعبية إلى أخذ العبر من التجارب التي مرّوا بها، وطلب منهم بذل أقصى جهودهم لتجاوز إخفاقات المرحلة السابقة، والعمل بجدّ لبناء مستقبل أفضل في عراق آمن ومستقرّ ومزدهر.

رفض النّجف التّدخّلات الخارجيّة

تحدّث السيستاني أمام ضيوفه الدوليين عن أبرز النقاط التي تشكّل هاجساً دائماً للمرجعية وتعتقد أنّها تشكّل عائقاً أو مانعاً أمام الوصول بالعراق والانتقال به إلى المستوى المأمول. ويمكن تلخيص هذه النقاط التي تساعد على تحقيق الأهداف التي يسعى إليها العراقيون بالتالي:

– إعداد الخطط العلمية والعملية لإدارة البلاد التي تعتمد مبدأ الكفاءة والنزاهة في تولّي المسؤوليات والمواقع الإدارية والسياسية.

– منع التدخّلات الخارجية بمختلف وجوهها.

تشكّل هذه النقطة أحد أهمّ الهواجس التي تشغل مرجعية النجف، من دون أيّ اعتبار للجهة التي تأتي منها هذه التدخّلات. وقد أثبتت المرجعية موقفها الرافض لهذه التدخّلات، على مدى العقدين الماضيين، من منطلق وطني عراقي، وأغلقت أبوابها أمام ممثّلي الجهات التي ترى أنّها تملك أدواراً سلبية على الوضع العراقي. وربّما أبرز دليل هو رفض المرجعية عقد لقاءات مع مسؤولين إيرانيين، سواء مع قائد قوة القدس السابق الجنرال قاسم سليماني قبل اغتياله، أو مع خليفته الجنرال إسماعيل قاآني، علاوة على إقفال أبوابه أمام بعض الزوّار الإيرانيين الرسميين الذين سبق أن زاروا العراق.

يشمل هذا الإقفال ممثّلي دول أخرى، وخاصة الجانب الأميركي الذي يعتبر السيستاني ومرجعيّته المسؤول الأوّل عن إفشال كلّ خططه السياسية في العراق، وذلك منذ رفضت المرجعية المسوّدة الأولى للدستور التي كتبها الحاكم الأميركي المدني للعراق بول بريمر، وصولاً إلى رفضها لأيّ وجود عسكري أجنبي على أرض العراق يتنافى مع مبدأ الاستقلال والسيادة الوطنية.

حصر السّلاح بيد الدّولة

من أبرز النقاط التي تشكّل هاجساً دائماً للمرجعية:

– تحكيم سلطة القانون، وحصر السلاح بيد الدولة.

في هذه النقطة تعتقد المرجعية أنّ تحكيم سلطة القانون يتعارض ويتصادم مع ما يعيشه العراق من تفلّت للسلاح وانتشاره بشكل عشوائي، بعدما تحوّل إلى أداة تستخدمها بعض الفصائل غير القانونية لفرض إرادتها على الدولة والمجتمع، بالإضافة إلى تحوّله لأداة لتعطيل القانون وخرقه، ومصدر تهديد للعملية السياسية وجهود التنمية من خلال تحويله إلى سلاح لحماية مصالح وحصص الجهات التي يمثّلها في القرار السياسي والاقتصادي والعملية التنموية التي من المفترض أن تنقل العراق إلى مستقبل أفضل. وبالتالي يمنع تطبيق مكافحة الفساد على جميع المستويات بالشكل المطلوب الذي يلبّي طموح جميع طبقات وشرائح الشعب العراقي.

موقف المرجعية من السلاح المتفلّت، أو المطالبة بحصر السلاح بيد الدولة حسب التعبير الدقيق لكلام السيّد السيستاني، لا يمكن تفسيرهما بأنّ لدى النجف موقفاً سلبياً من هيئة الحشد الشعبي، خاصة أنّ هذه القوات تمّ تشكيلها تلبية للنداء والفتوى الكفائية التي صدرت عن السيّد السيستاني عام 2014 لمواجهة الهجوم الذي قام به تنظيم داعش واستطاع خلاله احتلال العديد من المحافظات العراقية، خاصة المحافظات الغربية في الأنبار والموصل وصلاح الدين وديالى. بالإضافة إلى اعتبار أنّ هذه الهيئة والقوّات التابعة لها تحت مسمّى الحشد باتت جزءاً من القوّات المسلّحة العراقية وأحد الصنوف القتالية الخاضعة لسلطة وأوامر رئيس الوزراء الذي يتولّى القيادة العامّة للقوّات المسلّحة، والتي تلتزم بالموقف السياسي الرسمي للدولة والحكومة. وبالتالي تملك هذه القوّات مرجعية رسمية وخاضعة للقوانين العامة. كما أنّ أيّ مخالفة تصدر عنها يجب التعامل معها وفقاً للسياقات العسكرية خاصة، والقانون المعمول به في الدولة. وبالتالي لا يمكن تعميم موقف المرجعية هذا على جميع الفصائل، خاصة تلك التي تعتبر جزءاً من قوات هيئة الحشد الرسمية.

أعمال عسكريّة خارج الدّولة

قد يكون هذا التمييز بين الفصائل الرسمية للحشد والفصائل التي تعمل خارج دائرة الحشد هو المقصود والمستهدف من كلام السيد السيستاني، خاصة تلك الفصائل التي تقوم بأعمال عسكرية من خارج إدارة الدولة والقيادة العامّة للقوات المسلّحة أو هيئة الحشد الرسمية وغرفة العمليات المشتركة للقوات المسلّحة.

قد يكون هذا الموقف مصدر انزعاج لبعض الأطراف الداخلية والإقليمية، لا سيما الفصائل التي أعلنت تشكيل جبهة المقاومة من خارج كلّ الأطر القانونية أو الرسمية للدولة والقوات المسلّحة، مع إصرارها على اعتبار نفسها جزءاً من الحشد، في حين أنّ مرجعيّتها السياسية والعسكرية تدخل في دائرة الدور والنفوذ الإيرانيَّين وتتبع لإشراف ومواقف قوّة القدس، وتعمل تحت عنوان “وحدة الساحات” أو “محور المقاومة” الذي تحدّث عنه المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد علي خامنئي قبل أسبوع، باعتبار هذا المحور جزءاً من المواجهة مع العدوّ الصهيوني المدعوم أميركياً.

عندما يعتبر السيستاني أنّ أمام العراقيين مساراً طويلاً إلى أن يصلوا إلى تحقيق الأهداف التي حدّدها ووصفها أمام ضيوفه الدوليين، فإنّ التأكيد على أزمة ومعضلة السلاح المتفلّت يعني أنّه تحوّل إلى عائق أمام تحقيق النهوض بالعراق وإعادة تصويب مسارات العملية السياسية وتطبيق القانون وإبعاد العراق عن الأزمات والتدخّلات التي تعيق العملية التنموية بمختلف مستوياتها.

“الإطار التّنسيقيّ” يرحّب!

اللافت في المواقف العراقية مسارعة “الإطار التنسيقي” الشيعي للترحيب بالمواقف الصادرة عن السيّد السيستاني. فقيادات هذا “الإطار”، التي تأتي من مواقعها على رأس فصائل مسلّحة، تعتبر العمود الفقري لقوات الحشد الشعبي. وهذا الترحيب قد يكون منسجماً مع ما يمكن تسميته تحوّلاً في موقف هذه القوى والأحزاب والفصائل في تعاملها مع منظومة الحشد الشعبي، وسعياً إلى تكريس قانونية هذا التشكيل واستكمال الإجراءات الدستورية لذلك. وهو الأمر الذي يبعد عنها تهمة الخروج عن إرادة الدولة أو الوقوف في موقع المتعارض معها، وبالتالي يرسم خطّاً فاصلاً يميّز بينها وبين الفصائل التي يمكن تصنيف سلاحها تحت عنوان المتفلّت أو خارج الدولة.

يكشف هذا السعي إلى التمايز عن تحوّل في مواقف هذه القوى والأحزاب، وأنّها تسعى إلى إمساك العصا من الوسط في علاقتها مع إيران التي تعتبر الحليف والداعم التاريخي لها، وأنّ الموقف السياسي المعلن لا يعني بالضرورة أن تكون جزءاً من المشروع العسكري والأمنيّ لطهران ومحورها، وهو ما حاولت هذه القوى تكريسه منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتوسيعها باتّجاه لبنان.

“الحشد” يبتعد عن إيران؟

ينبع هذا الموقف أو المسار من محاولة هذه الأحزاب إيجاد توازن بين حرصها على استمرارية علاقتها مع العمق الإيراني، وبين عدم إثارة الحساسية الأميركية، خاصة أنّ ما حقّقته على الصعيد السياسي وقدرتها على الإمساك بمقدّرات الدولة وتشكيل الحكومات المتعاقبة، لم يكن ليحصل من دون التفاهم مع الإدارة الأميركية، سواء بشكل مباشر أو عبر تفاهم غير معلن بين واشنطن وطهران.

في الخلاصة، باتت هذه القوى في مرحلة التفكير في كيفيّة الحفاظ على مصالحها وما حقّقته من مكاسب اقتصادية وسياسية وعدم الدخول في مغامرات قد تفقدها كلّ هذه الإنجازات وتبعدها عمّا تعتبره استحقاقاً لها في العملية السياسية.

من هنا يمكن فهم هذا الترحيب بموقف السيد السيستاني، الذي يمكن توظيفه في الفصل بينها وبين الفصائل التي تعمل بناء على انتمائها إلى “جبهة المقاومة” التي تقودها طهران في الإقليم من خارج إرادة الدولة العراقية ومؤسّساتها العسكرية والرسمية.

على الرغم ممّا تدين به هذه الفصائل والأحزاب في “الإطار التنسيقي” للدور الإيراني في تعزيز مواقعها والحفاظ على بقائها في العملية السياسية، إلا أنّها تحاول تكريس مسافة بين مصالحها العراقية ومصالح إيران الإقليمية، ويمكن لموقف المرجعية أن يشكّل غطاء قويّاً دينياً واجتماعياً للموقف الذي لجأت إليه بإعلان دعمها السياسي والإغاثي والإنساني للشعبين الفلسطيني واللبناني، وعدم الالتفات إلى كلّ الإشارات السلبية التي تنال منها نتيجة هذا الموقف.

حسن فحص

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.