إسرائيل ولبنان وسراب الشّرق الأوسط الجديد (1)

8

بقلم غسان سلامة

«اساس ميديا»

يتأمّل الأكاديمي والدبلوماسي اللبناني غسان سلامة الأهميّة التاريخية وتعقيد منطقة الشرق الأوسط، التي لطالما كانت محوراً للطموحات الإمبراطورية والصراعات السياسية. من موقعه على جبل لبنان، يتأمّل الكاتب بقايا الإمبراطوريّات المختلفة، الرومانية، البيزنطية، والفرنسية، وكلّ واحدة تركت بصمتها دون أن تحافظ على هيمنتها بشكل دائم. هذا التأمّل يبرز الطبيعة الزائلة للسلطة في منطقة تتّسم بأهمّيتها الاستراتيجية وتنوّعها الثقافي.

ينتقد سلامة في مقالة له نشرتها “فايننشيل تايمز”، إرث الاستعمار في القرن العشرين، الذي تراجع في ظلّه النفوذ الإمبراطوري وظهرت حقبة الاستقلال. ومع ذلك، أسفر هذا التحوّل عن خريطة سياسية عشوائية إلى حدّ كبير، وزّعت بين الدول الحديثة، التي لم تكن دولاً قومية حقيقية.

 بناء الدولة هو مهمّة شاقّة للغاية في المجتمعات التعدّدية، لم تتحقّق بشكل كامل أبداً، ودائماً ما تكون قابلة للانعكاس، وغالباً ما يُنظر إليها على أنّها غطاء يستخدمه فصيل أو آخر (علويّ، تكريتيّ، مارونيّ) لفرض إرادته. وتزداد صعوبة هذه المهمّة عندما تحاول القوى الإقليمية الصاعدة تحويل هذه الكيانات الهشّة إلى أقمار طيّعة. شهد الشرق الأوسط في الآونة الأخيرة العديد من هذه الحلقات. فقد حاولت مصر بقيادة جمال عبد الناصر في الخمسينيات والستّينيات من القرن الماضي فرض سيطرتها باستخدام موجة حماسيّة من القومية العربية، لكنّها اصطدمت بوحشيّة وتفوّق إسرائيل العسكري، ومؤامرات الأنظمة العربية المحافظة، والعداء الغربي الفاعل.

من جهتها، انخرطت إيران الخمينية، التي روّجت لتحرير الشيعة والإسلام السياسي، في مشروع مشابه منذ الأيام الأولى للثورة، وهو ما أدّى، من بين أمور أخرى، إلى حرب مدمّرة استمرّت ثماني سنوات مع العراق، ورعاية جماعات مسلّحة غير حكومية مثل “الحزب” في لبنان، والحشد الشعبي في العراق، وحماس في فلسطين. حاولت طهران تنظيم تلك الشبكة في ما يُعرف بـ”محور المقاومة”، الذي بدا في تصاعد حتى وقت قريب. في المقابل، لم تتخلّف تركيا بقيادة رجب طيب إردوغان عن السعي إلى استعادة نفوذ أنقرة، باستخدام وسائل دقيقة وأخرى أقلّ دقّة، في منطقة خضعت للحكم العثماني لنحو أربعة قرون.

طموحات نتنياهو

الأحدث في الانجذاب لهذا النهج هو بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل. يتحدّث عن طموحه ويثبت من خلال سلسلة من الانتصارات التكتيكية أنّه يعني ما يقول. بعد اندلاع أحداث حماس العنيفة في 7 أكتوبر 2023، حوّل غزة إلى حقل دمار شاسع، شرّد سكّانها، وقصفهم، وجوّعهم، وجرّدهم من إنسانيّتهم كما يشاء. ثمّ انتقل شمالاً لإنهاء حالة الحرب المنخفضة الحدّة التي خاضها الحزب ضدّ إسرائيل دعماً لغزة، وقام بذلك على نطاق واسع.

قصف ميناء الحديدة في اليمن لمعاقبة الحوثيين الذين اعتبروا أنّ من واجبهم دعم غزة من خلال تعطيل الملاحة الدولية وإطلاق الصواريخ على إسرائيل. استمرّ في ضرب مستودعات الأسلحة، وبالطبع استهداف الميليشيات الإيرانية والمتحالفة مع إيران في سوريا المنقسمة والمعطّلة. وفي وقت كتابة النصّ، يستعدّ لقصف إيران، ردّاً على هجمات الصواريخ في 1 تشرين الأوّل، التي لا تتطلّب فقط التحليق فوق دول مجاورة، بل أيضاً إشراك الولايات المتحدة في تقديم الدعم.

في الوقت نفسه، لم يسمح بنيامين نتنياهو لأحد بأن ينسى أنّ هدفه الأسمى يظلّ ضمّ الضفة الغربية المحتلّة (وبالتالي القضاء على أيّ إمكانية لقيام دولة فلسطينية)، فتزايدت اغتيالات النشطاء، وتدمير القرى بأكملها، ومصادرة الأراضي بوتيرة مضاعفة. أمّا وزير ماليّته بتسلئيل سموتريتش فهو منشغل بتعديل النظام القانوني في “يهودا والسامرة” استعداداً لما يخشاه كثيرون أنّه سيكون عمليّة ضمّ كاملة، وربّما تهجيراً لحوالي 3 ملايين فلسطيني شرق نهر الأردن. وأخيراً، بدأ يتحدّث علناً عن دولة يهودية قد تمتدّ من العراق إلى مصر.

عسكرياً، بدت تصرّفات إسرائيل في غزة وكأنّها غريزية وفوضوية، أشبه بانتقام منها بحرب. إذ اتّهم إسحاق هرتسوغ، رئيس إسرائيل، جميع سكّان القطاع بأنّهم متواطئون مع حماس، وبالتالي هم أهداف مشروعة. خلال العام الذي تلا السابع من أكتوبر، واصلت إسرائيل قصف المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس والقرى والمخيّمات دون أن تعلن، وربّما دون أن تعرف، ما الذي تنوي فعله “في اليوم التالي”.

الحرب على لبنان مخطّطة

أمّا في لبنان فحربها بدت على النقيض تماماً، إذ كانت حرباً مخطّطة بعناية فائقة. المواجهة الأخيرة مع “الحزب” في عام 2006 انتهت دون حسم، ومنذ ذلك الحين اعتقد الخبراء الإسرائيليون أنّ مواجهة جديدة مع مقاتلي حسن نصرالله كانت حتمية. لذا جرى تنفيذ خطّة حرب تمّ صقلها حتى أصغر تفاصيلها وتحديثها بانتظام على مدار 18 عاماً.

كانت النتيجة حملة تجمع بين استخبارات شبه خيالية وقصف متواصل باستخدام قوّة جوّية مهيمنة وطائرات بدون طيّار متطوّرة، وهي مجالات تتمتّع فيها إسرائيل بتفوّق واضح، إن لم يكن هيمنة مطلقة. مع نهاية الشهر الماضي، وبعد اغتيال نصرالله، كان نتنياهو شبه معلن عن النصر، مشيداً بنجاح إسرائيل في “تغيير ميزان القوى في المنطقة لسنوات”. نجاحات إسرائيل التكتيكية المتتالية على كلتا الجبهتين لا جدال فيها، لا سيما بعد مقتل زعيم حماس يحيى السنوار في غزة على يد قوّاتها. خبراء عسكريون يتوقّعون بشغف الابتكارات الإسرائيلية المقبلة. العديد من المراقبين المؤيّدين لإسرائيل في حالة انبهار، إن لم تكن نشوة، وكلّ هذا شجّع نتنياهو بشكل حتمي على التفكير في شرق أوسط جديد، معاد تشكيله بأيدي القوّة الإسرائيلية، ويعكس إرادة الهيمنة الجديدة.

العقلانيّة والخرائط الإسرائيليّة

يُطلب بانتظام من رسّامي الخرائط الإسرائيليين تجهيز رئيس الوزراء بخرائط يعرضها على منبر الأمم المتحدة، تُظهر شرقاً أوسط مزدهراً على وشك أن يحلّ محلّ شرق أوسط مظلم وهمجيّ. لا شكّ أنّ إسرائيل قد غيّرت ميزان القوى بشكل كبير، فأضعفت حماس و”الحزب” بشكل كبير، ووضعت نفسها في موقع تستطيع فيه حكومتها أن تملي التشكيل الإقليمي الجديد بمساعدة جيشها المنتصر، وخمول الدول العربية، وسخاء الولايات المتحدة (بالأسلحة، والدولارات، والدعم الدبلوماسي)، ونظام دولي منهار.

كيف يمكن أن تبقى عقلانياً، ناهيك عن أن تكون متواضعاً، تحت هذا الاصطفاف من النجوم؟

ليس السؤال عن حقيقة هذا التغيير الكبير، بل عن مدى استدامته. إذا كان التاريخ دليلاً، فإنّ المحاولات السابقة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط انتهت عموماً بالفشل. رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن دخل في حالة اكتئاب عميقة عندما تأمّل نتائج محاولته في عام 1982، وربّما لا يزال جورج بوش غارقاً في التفكير في المبادرة التي أطلقتها الولايات المتحدة عام 2003 لتصدير الديمقراطية عبر تغيير الأنظمة في المنطقة.

يتبع غداً

غسان سلامة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.