إجتناب العيوب … في إستنزاف الجنوب

44

بقلم د. باسم عساف

ليست فلسطين وحدها، هي الهدف النهائي للمشروع الصهيوني الكبير، الذي يهدف إلى إقامة: (دولة إسرائيل من الفرات إلى النيل)، وحتى الأراضي التي تقع بين الفرات والنيل، ليست هي النهاية لهذا المشروع، الذي خُطِّط له منذ ما قبل المؤتمر اليهودي العالمي، الذي عُقِد في مدينة بازل بسويسرا سنة /١٨٩٧/ حيث تمَّ الإتفاق فيه على تحديد وجهتهم، لإقامة دولتهم على أرض فلسطين، والتوسُّع بها في المنطقة، لتكون لها السَّيطرةُ على العالم كلَّه، بعد أن تستولي على مقدِّرات وإنتاج، ما تختزنه في باطن الأرض وعلى سطحها،  وما تحوِيه من أماكن إستراتيجيّةٍ بحريَّةٍ وبريَّةٍ وجوِّيَّةٍ، حتى تتحقَّق غايتها وينفذ مخطَّطها بالهيمنة، ويطبَّق مشروعها بأيِّ وسيلةٍ كانت.

لذا فإنَّ هذا المشروع الصُّهيوني يأخُذ أشكالاً متعدِّدةً بالسَّيطرة المباشِرة وغير المباشِرة،  أي ربما تكون بالأمور العسكرية والحربية والأمنية، وربما بالشؤون السياسية والديبلوماسيَّة، أو بالسلميَّة والإتفاقيَّات والمعاهدات الدوليَّة، التي تستند على العقود الجماعيَّة والفرديَّة، أو بالعمل على السيطرة الكاملة على الدول والحكومات الدولية والإقليمية والمحلية، من خلال قادةٍ وأحزابٍ وعشائر، تُدين للصهيونية بالولاء والعمل، وتشارك بهذا المخطَّط الكبير، من خلال المناصب ومراكز القرار، التي تساهم الصهيونية بوصولهم وتربعهم عليها، والإمساك بزمام الأمور  بصورة غير مباشرة، أو تحت غير مسمَّياتٍ يهودية أو صهيونية، وهذا ما يُتداول به عبر الدول العالميَّة والإقليميَّة والعربيّة..

إنَّ ما حدث من إتفاقيَّات عالمِيَّة وعربِيَّة، تحت إسم السلام العالمي، أو السلام مقابل الأرض، أو إتفاقيات الهدنة، والترسيم البحري، وما يجرُّ من ترسيمٍ بَرِّيٍ وخطوطٍ للمعابر، وكل ذلك يندرِج تحت إسم الإعتراف بهذا الكيان، وإعطائه الحقوق بالثبات على الإحتلال، وبالتركيزِ على أحقيَّة الوجود، الذي نتج عن إغتصاب الأرض والعرض، وتشريد شعوبٍ مستقرَّةٍ ومطمئنَّةٍ في أراضيها، التي ورثتها أبَّاً عن جدّ، وأقامت بها عبر التاريخ، الذي يشهد عالياً، من هم أصحاب الحقِّ بتقرير مصيرها.

معاناةٌ وأزماتٌ لم يشهدها التاريخ بطول الحرب، والأحداث المتنقلة هنا وهناك، لأجل إقامة هذا الكيان المغتصب، الذي جاء مع طبول الحرب منذ أكثر من مائة سنة، وإستمَرَّ مع التقتيل والتدمير والتشريد لأبناء الأرض ولإبادتهم، والقيام بإستبدالهم بالمستوطنين الحاقدين، والمرتزقة الفاسدين، والمستخدمين المارقين، حيث يجعلونهم مطيَّةً للوصول إلى غايتهم، في إقامة دولتهم تحت غطاءٍ دينيٍّ وتلموديٍ، يعيشون في أوهامه ويستميتون لتحقيق تلفيقاتهم وأكاذيبهم  المغلَّفةِ بأقنعة السلام وحقوق الإنسان، وأكثر من ذلك، بأنَّهم هُم بناة ودعاة الحرِّيَّة والإخاء والمساواة.

إستمَرَّ هذا الكيان بسياسَةِ الصيف والشتاء على سطحٍ واحدٍ، أو سياسة (رِجلٍ بالفلاحة، ورِجلٍ بالبور )، وهي التي تجسَّدَت بقاعدة : (الخطوة خطوة )، أو القضم الممنهج حسب المخطط المرسوم، أو بناءً على الظروف والعوامل المرافقة للحروب والهدنات والإتفاقات والمعاهدات، وجميعها تدلُّ على الخيانات والخِداع، الذي يقع به العملاء أو الهُبَلاء المفاوضين على السلام، وهم لا يحصُدون إلا الحروب والقتل والتدمير أو القضم، دون التطلُّع أو الإعتبار بأن اليهود : أشدُّ الناس عداوَةً للذين آمنوا بهذه الأمة ورسالتها، ولم يتَّعظوا حتى من: (لا يُلدَغ المؤمن من جُحرٍ مَرَّتين)، وليس مئتين.

هكذا سُلبَت فلسطين من أهلها، عبر الإحتلال الإنكليزي والخيانات العربية، ومسانَدَة الصهيونيَّة العالمِيَّة ومنظماتها الدوليَّة والسرّيَّة، وهكذا توالت الإنهزامات والنكسات عبر المعاهدات والإتفاقيات العربية، حتى وصل الأمر بالأمة وأنظمتها، لتستكين عبر صفقة القرن، وتخضع للتطبيع الكامل مع الكيان، لترى معها الشركات اليهودية الكبرى، تغزو الأسواق بمنتجاتها وبأنشطتها وبحركاتها، التي تدمِّر الإقتصاد العربي لصالح الكيان الصهيوني، حيث يستمرُّ بنفس الوقت،  في عدوانه على فلسطين ولبنان، وسوريا واليمن والعراق، وعلى كلِّ بلدٍ أو شعبٍ أعلن مقاومته لهذا الكيان وإحتلاله، كما تشهد عليه جبهات غزّة والضفة وجنوب لبنان.

إن غزَّة من بعد عملية طوفان الأقصى، قد لقَّنت العدو المحتلّ، دروساً لم يشهد مَثِيلها طوال مدة إحتلاله لفلسطين والأراضي العربية، حيث كان يعتمد على الخيانات والعملاء  بتمرير حروبه وتوسعه وإحتلاله، أما اليوم، ورغم مجازره المتفاقِمَة والإبادة الجماعيَّة وإستخدام الحرب بالأرض المحروقة، فإن الهزائم ترافقه يومياً، مادياً ومعنوياً، وتقُضُّ مضاجع حكومته وقيادته، بالإنهزام الكبير والفاضح، على الوهم الذي أعطاهم الإستعلاء الكاذب، بأنهم الجيش الذي لا يقهر، والذي بات يلهث وراء الموافقة على شروط المقاومين المنبعثة من تحت الأرض، ويخضعون قسراً لأوامرهم، التي تحقِّق النصر المؤزَّر، بكلِّ ثقةٍ وفخرٍ للشهداء والمنكوبين والمشردين.

كما يجري في غَزَّة والضفَّة من عملياتٍ بطولية، قد أوقعت حكومة الكيان وجيشه في الهاوية وبئس المصير، فإنَّ الجنوب اللبناني، إذا ما سلك درب المقاوميين هناك، بالتضحية والإعداد، والثقة والإخلاص للقضية، التي تحمي الوجود، وتدافع عن الحدود، وتصدُّ جَحافل اليهود، من دنسِ الجنود، كما أصحاب الأخدود.

*فإن ملامح النصر  قد تشرِق على الأمَّة ككل، وتكِرُّ السبحة التي كانت تربط الأنظمة والشعوب عبرها، بالهزيمة النفسيَّة التي طالت مع الزمن الرديء والسنين العجاف،  والتي أضفَت غباشة الإنهزام، على عيون الخانعين والساكتين عن الحَقِّ المعلوم، لأبناء هذه الأرض المقدَّسة، حيث أنهم لن يُلدَغوا مرَّةً أخرى، بل لهم في أبناء غزَّة والضفَّة، العبرة الصَّارخة لإزالة هذا الوهم، وإعلان إنتهاء الحرب النفسيَّة المفروضة على الشعوب، وإجتناب كُلَّ العيُوب، لئلا نتدحرج مجدداً في إستنزافِ حربِ الجنُوب.

د. باسم عساف

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.