أهداف ثلاثة في 24 ساعة: إيران أمام ما بعد “الطوفان”

57

بقلم محمد قواص

«أساس ميديا»

قد لا يكون دقيقاً أنّ إسرائيل “انتقمت” لمقتل أطفال مجدل شمس باستهداف القيادي في الحزب فؤاد شكر. فحتى المنابر الرسمية والصحافية الإسرائيلية الجادّة لم تربط بين الحدثين ولم تعتبر الربط مهمّاً، واكتفت بالقول: فعلناها وانتهى الأمر إلى هذا الحدّ. وكان من الصعب على وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أن يكون مقنعاً في افتعال رابط بين الضاحية والجولان. فيما احتفى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بهجمات طهران والضاحية بصفتها نصراً من دون مناسبة أو توقيت… فهل تثأر إيران لكبريائها؟ 

لا يتيح منطق الأمور تصديق أنّ اغتيال قيادي تاريخي للحزب بمستوى فؤاد شكر، ملاحق من قبل الولايات المتحدة منذ عقود، وتبحث عنه أجهزتها المخابراتية، وترصد 5 ملايين دولار مقابل معلومات عنه لاتّهامه بالضلوع بتفجير مقرّ المارينز في لبنان عام 1983، هو هدف “غبّ الطلب” تقرّر إسرائيل توقيت القضاء عليه وفق أجندة ظرفية مثل ادّعاءاتها بأنّ مأساة مجدل شمس تسبّب بها الحزب.

إذا أسقطنا الجدل بشأن احتمالات فرضية اغتيال شكر ردّاً على حادثة الجولان، فأين نضع في هذا السياق اغتيال إسماعيل هنيّة، رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”؟

نُفّذ الأمر في طهران، وهو في حماية الحرس الثوري، وفي ضيافة الجمهورية الإسلامية، بعد ساعات من عقده لقاءين منفصلين مع المرشد، علي خامنئي، والرئيس المنتخب حديثاً، مسعود بزشكيان. وفي السياق ذاته يجوز التساؤل: أين الولايات المتحدة من كلّ هذا؟

لا ضوء أخضر من أميركا

من يراقب بعين باردة زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأخيرة للولايات المتحدة، يسهل عليه استنتاج أنّه لم يحصل من الإدارة الأميركية في واشنطن على أيّ ضوء أخضر ليفعل ما يشاء في الشرق الأوسط.

بغضّ النظر عن المشهد “المسخ” لتهليل “الكابيتول” لسياسيّ مثل نتنياهو تشتمه تظاهرات الإسرائيليين وتنتظره المحاكم في الساعة المقبلة لخروجه من الحكم، فإنّ لقاءه بالرئيس جو بايدن كان بارداً، ولقاءه مع نائبة الرئيس، مرشّحة الحزب الديمقراطي المحتملة، كامالا هاريس كان متوتّراً. علاوة على أنّ سفره إلى منتجع مارالاغو في ولاية فلوريدا للقاء الرئيس السابق، مرشّح الحزب الجمهوري، دونالد ترامب، شابهُ لَبسٌ أشعلَ تكهّنات وتفسيرات تداولها روّاد مواقع التواصل الاجتماعي بشأن غياب الودّ الذي كان يكنّه ترامب لضيفه أثناء ولايته السابقة، إضافة إلى دعوته نتنياهو المباشرة والواضحة إلى إنهاء الحرب في قطاع غزّة.

وكان دار لغط في بيروت بشأن اتّصالات دبلوماسية أجراها مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الطاقة آموس هوكستين المكلّف بملفّ ترسيم الحدود البرّية (بعد إنجاز الترسيم البحريّ) بين لبنان وإسرائيل، وهو لغط بشأن ضمانات قدّمتها واشنطن لبيروت وكشف عنها وزير الخارجية عبدلله بوحبيب بعدم استهداف العاصمة وضاحيتها الجنوبية والبنى التحتية اللبنانية.

الأرجح أنّ تعهّدات واشنطن الصباحية سقطت بقرار أميركي بعدما أبلغ الإسرائيليون واشنطن بتوفّر معلومات “عاجلة نادرة” تتيح القضاء على “عدوّ الولايات المتحدة” القديم، فكان أن أعطت واشنطن الضوء الأخضر لـ”تحييد” شكر حتى لو تمّ ذلك في قلب الضاحية. وتكفي هنا قراءة ما بين كلمات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الذي أعلن أنّ اغتيال هنيّة “أمر لم نكن نعلم أو نشارك فيه”، بما أوحى بعكس ذلك في عملية الضاحية.

هنيّة: أميركا وافقت… بعد التّنفيذ؟

تغيب معلومات دقيقة عن الظروف الغامضة والمثيرة للجدل لاستهداف هنيّة في مقرّه في طهران، غير أنّ إسرائيل تتمتّع ببطاقة خضراء غربية للقضاء على أيّ من قيادات حركة “حماس” التي تعتبرها واشنطن والعواصم الحليفة لإسرائيل “تنظيماً إرهابياً” ارتكب “الطوفان” في 7 أكتوبر 2023.

تتسابق كلّ المنظومة الغربية على شيطنة “7 تشرين الأول” وإيجاد ذرائع لتبرير وتسويق إبادة جماعية تجري في قطاع غزّة، على الهواء مباشرة، تحت نظر “المجتمع الدولي”. ولا يشوّش على هذه المسلّمة إلا اعتراضات شعبية متفرّقة، وتقارير المنظّمات الإنسانية، وتحرّك واعد للمحاكم الدولية.

وفق هذه الحقيقة لم تعترض واشنطن وحلفاؤها على اغتيال هنية وشكر، وربّما لا تملك أن تعترض بالنظر إلى رمزية الشخصيات المستهدفة في السرديّات الدولية، الغربية خصوصاً، لمكافحة “الإرهاب” والدفاع عن “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، وفق تصريحات نائبة الرئيس الأميركي كامالا مثلاً.

إذا ما أضفنا عمليّتَي طهران والضاحية إلى عمليّات قصف طالت في التوقيت نفسه مواقع للحشد الشعبي في العراق، يصير واضحاً ارتفاع حدّة التوتّر في المنطقة، وسيسيل لعاب من يطمح إلى توسيع الحرب فيها. وتحريك الولايات المتحدة لقطع بحريّة في البحر المتوسّط يوحي بتعقيدات إضافية حول هذا الخيار وباستعداد القوات الأميركية لأن تكون حاضرة لردعه.

قد يكون وراء اغتيال هنيّة في قلب طهران كثير من القصص بشأن الاختراق الأمنيّ الفاضح الذي تحقّقه إسرائيل في قلب المربّعات الأمنيّة للعاصمة الإيرانية، أو داخل الدوائر القريبة من هنّية نفسه، وصولاً إلى الترويج لنظريّات مؤامرة لا تبرّئ إيران نفسها من تهمة التواطؤ.

قد تنسحب فصول المؤامرة على الواقع الأمنيّ للحزب الذي فقد خلال الأشهر العشرة الأخيرة خيرة قادته العسكريين الكبار، على نحو يفضح وجود اختراق تكنولوجيّ وبشريّ متقدّم للصفوف القيادية الأولى في الحزب.

حين يسهل على إسرائيل اغتيال شكر، المقرّب من الأمين العامّ للحزب بعد 5 أشهر على اغتيال قيادي حماس صالح العاروري في قلب الضاحية حيث مقرّ الحزب وقياداته، فإنّ الأمر بات يندرج في مستويات سوريالية لا يمكن إدراكها في علوم السياسة وفنّ تحليل العلاقات بين الدول ولعبة الأمم.

خلال 24 ساعة اغتالت إسرائيل هنيّة في طهران وشكر في الضاحية، واستهدفت واشنطن مقرّات الحشد في العراق. بدا أنّ امتدادات إيرانية ثلاثة استُهدفت. قبلها بأيام اشتعل ميناء الحديدة في اليمن. بات الأمر يشكّل تحدّياً داهماً لاستراتيجية طهران القائمة على تحريك ساحات بعيدة لإبعاد شرور العالم عن أبوابها. لقد بات الشرّ يفتك مجدّداً حتى في قلب طهران وداخل مربّعاتها الأمنيّة المحروسة.

محمد قواص

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.