أسئلة ما بعد السّنوار

18

بقلم أمين قمورية

«أساس ميديا»

حقّق يحيى السنوار أمنيته. مات شهيداً على أرض قطاع غزة. سقط وهو يقاتل. صورته الأخيرة مرتدياً الزيّ العسكري ومزنّراً بالجعبة والبارودة والقنابل، عرّت إسرائيل وفضحت استخباراتها وسلبت منها صورة النصر التي كانت تريدها مغايرة.

لم يستسلم يحيى السنوار، لم يكن في مخبأ أو في نفق ولم يكن يتّخذ الأسرى الإسرائيليين دروعاً بشرية، كما روّجت استخبارات إسرائيل. كان وسط أنقاض مبنى على سطح الأرض في رفح يواجه المحتلّين وجهاً لوجه باللحم الحيّ. صار قدوة لمحازبيه ومثالاً وأيقونة. ظهر كقائد شجاع لا يخشى المواجهة. صورته “مقبلاً غير مدبر” كذّبت كلّ محاولات شيطنته، ودحضت كلّ الشائعات والشكوك في شأنه. صورة نادرة ستكرّسه لدى مناصريه والمحازبين قائداً فلسطينياً سقط وهو يقاتل في الميدان من أجل حرّية فلسطين وإطلاق المعتقلين في السجون الإسرائيلية.

هل تموت حماس؟

جعل بنيامين نتنياهو السنوار العنوان الأبرز لعدوانه على غزة. واعتبر أنّ موته هو بمنزلة النهاية لحركة “حماس” وانتصار كبير لإسرائيل. لكنّ الحركات التحرّرية لا تموت بموت قادتها. اختزل قضية غزة بأنّها مشكلة السنوار، وأنّ رحيل قائد “حماس” يمهّد لإنهاء الحرب. وتجاهل عمداً أنّ هناك فرقاً كبيراً بين انتهاء حال الحرب وانتهاء الاحتلال. وتناسى أنّه ما بقي الاحتلال ستبقى المقاومة وقد تجرّ إلى حروب ومعارك وسيل من الطوفانات الجديدة.

توعّد بإعادة قطاع غزة إلى الوضع الذي كان عليه قبل عام 2005، أي قبل الانسحاب منه، وتالياً يعني إعادة احتلاله من جديد وإعادة المستوطنات إليه وليس فقط إلى شماله، وتالياً إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، وهذا يقود إلى واحد من طريقين: ترسيخ الاستبداد دفعاً بأهل غزة إلى الرحيل الطوعي أو الترانسفير، أو زرع بذور انفجار أشدّ هولاً ممّا شاهده العالم السنة الماضية.

تعهّد بالتوصّل إلى صفقة لإطلاق المحتجزين الإسرائيليين، لكن مع من سيتفاوض؟ مع الأشباح أم مع حركة “حماس” التي تحتجزهم؟ وأيّ تفاوض إلزامي مع “حماس” يعني الاعتراف بها وبقاءها حركة فلسطينية أساسية ودحض لما قاله بنفسه للإسرائيليين بأنّ الحركة صارت من الماضي.

الأسئلة المتزاحمة

موت السنوار ليس أمراً عادياً في الصراع المفتوح على أرض غزة. هو مهندس الطوفان، والقائد السياسي والتنظيمي والعسكري للمعركة والممسك بمفاصل الحركة ليس فقط في القطاع، بل في خارجه أيضاً بعد اغتيال سلفه إسماعيل هنية ورهط كبير من قادتها. ضربة مؤلمة لـ”حماس” والحركة الإسلامية المقاومة: من سيتدبّر أمور الحركة من بعده؟ لا يتعلّق الأمر باسم البديل، بل بهويّته وهواه السياسي المحلّي والإقليمي. السنوار ضبط التنوّع وتعدّد الخيارات والاتّجاهات في الداخل.. هل لدى أيّ بديل القدرة على فعل ذلك؟ هل يرمي حامل الأثقال المقبل بأثقال الحركة ومفاتيحها في الحضن الإيراني أم يكون لديه خيارات أخرى قطرية أو تركية أو مصرية أو عربية عموماً؟ هل يكون أكثر راديكالية من سلفه في ظلّ شراسة المعركة أم يمسك العصا من منتصفها ويكون أكثر براغماتية وانفتاحاً على الخيارات التسوويّة؟ اسم البديل سيعني الكثير وسيشير إلى مستقبل الحركة، وقد لا يكون هناك اسم محدّد بل قيادة جماعية سرّية على النهج الجديد الذي يتبعه الآن الحزب بعد اغتيال أمينه العامّ حسن نصرالله.

سؤال آخر لا يقلّ أهمّية عن السؤال السابق: أيّ مستقبل لحركات الإسلام السياسي المقاوم بعد الحرب الإسرائيلية الضروس المغطّاة دولياً على قادتها وبنيانها التنظيمي والفكري؟ وهنا لا يمكن فصل موت السنوار عن اغتيال نصرالله وهنية وصالح العاروري وفؤاد شكر وعلي كركي وإبراهيم عقيل والتهديدات الإسرائيلية باغتيال زعيم “أنصار الله” عبد الملك الحوثي وقادة في “الحشد الشعبي” العراقي وصولاً إلى مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي. هل ثمّة قرار دولي كبير بموافقة ضمنية من دول إقليمية بطيّ صفحة الإسلام السياسي المقاوم؟ ألا تزال هذه الحركات قادرة على تجديد نفسها وشبابها وبرامجها بعد استهداف جيل الستّينيات الذي يتشابه في النهج والأسلوب والتجربة؟ هل في إمكانها الاستجابة للتحدّيات الكبيرة التي تواجهها، ولا سيما في صياغة خطاب سياسي عصري يصحّح انكشافها العلمي في زمن الذكاء الاصطناعي والتطوّر التكنولوجي الهائل الذي أحدث خللاً كبيراً في موازين المواجهة؟

هل تكفي الشجاعة وحدها؟

في ظلّ الانتكاسات المتتالية وسلسلة الاغتيالات الطويلة وانتظار البدلاء، هل تكفي الشجاعة الاستثنائية والبطولات الفردية والمقاومة الأسطورية في الميادين في غزة وجنوب لبنان، وحدها لصدّ محدلة القتل والدمار الإسرائيلية المدعّمة بترسانات وجبخانات السلاح الأميركية والأطلسية؟

لا بدّ من الصمود ولا بدّ من المقاومة، ولا بدّ أيضاً من إجماع واسع على هذا الصمود يتخطّى حدود الجماعات والتشكيلات الضيّقة، ولا بدّ من وعي جمعيّ لخطورة العقل الفاشي الإسرائيلي الذي بات لا يعرف حدوداً ولا يعترف بقرارات دولية ولا بمواثيق ومعايير ولا حتى بالأمم المتحدة والمنظّمات الدولية. ولا بدّ من حرمانه من أوراق القوّة بتفادي الأخطاء القاتلة والمتكرّرة، ولا بدّ من حرمانه من الغطاء الذي يتحصّل عليه انطلاقاً من مبدأ النكاية. هذا الجنون لن يتوقّف عند حدود فلسطين ولبنان ولا حتى إيران. هذا الجنون يتطلّع إلى ابتلاع المنطقة وتغيير شكلها ومضمونها بما يتلاءم مع تطلّعاته “الإمبراطورية”. قضية فلسطين تقزَّم عندما يجري اختصارها بأنّها مجرّد “جبهة” في الصراع الإيراني الإسرائيلي. المسألة الدينية في فلسطين ليست إلا وجهاً من وجوه قضيّتها. فلسطين هي في الأساس قضية وطنية بامتياز. هي قضية الوطنيين. هي قضية عربية قبل أيّ شيء آخر. هي قضية أحرار العالم. الدفاع عن فلسطين يبدأ بموقف عربي صارم من هذا الجنون الذي بات خطراً عالمياً، ونأمل أن يكون التلاقي المصري السعودي الأخير، والتغييرات اللافتة في المواقف المصرية مقدّمة للتغيير.

أمين قمورية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.